تعكس صحفنا -ولله الحمد- الكثير من الحراك الاجتماعي الذي يدور في المجتمع.. ومن يقرأ صحيفة واحدة فقط يجد أن الدولة من قمة هرمها السياسي إلى مختلف الأجهزة الحكومية
ومنظومة القطاع الخاص تعمل في حركة مستمرة من أجل تحقيق هدف واحد وأساسي هو خدمة الدولة والمجتمع والمواطن. وعندما أزور أي دولة من دول العالم فإني أبحث أولاً عن صفحها، لأنها تمثل المرآة التي أستطيع أن أرى فيها المجتمع.. وأرقب من بعيد حركة هذا المجتمع ونشاطه.. وأتعرف على نبض الحياة وهموم الشارع من خلال ما أقرأه في تلك الصحيفة.. وبلا شك فإن مهارة قراءة الصحيفة قد يعرفها الكثير من القراء، فقد تمثل الصفحة الأولى النشاط الرسمي، ولكن نبض الشارع وحركة وهموم الناس لا تجدها على الصفحات الأولى، ولكن تجدها في مقالات الرأي ورسائل القراء واستطلاعات الرأي العام التي قد تعكسها تحقيقات صحافية، أو تقارير يومية عن الحياة في ذلك المجتمع.
والصحيفة هي أفضل شاهد على المجتمع، وهي الشاهد الأول على ما يدور في هذا المجتمع من أحداث وتطورات في مختلف نواحي الحياة. وبعض الصحف العالمية تعتبر صحفاً توثيقية لأحداث المجتمع، فهي تسجل الأحداث بهدف التوثيق، إلى جانب الهدف الإعلامي لها.. وهي ليست صحفاً رسمية في تلك المجتمعات.. فصحيفة نيويورك تايمز أو صحيفة التايمز اللندنية هي من بين صحف عالمية أخرى تعتبر موثقة لحركة مجتمعاتها.. ولهذا فمن يريد أن يطلع على نبض المجتمع اليوم أو قبل خمسين أو مائة عام فعليه أن يتجه إلى تلك الصحف للتعرف على الأحداث التي كانت مؤثرة في سير الحياة العامة في تلك الفترة..
والصحيفة في أي مجتمع تعمل عمل المؤرخ الذي يوثق ويكتب التاريخ، والفرق بينهما أن الصحيفة تكتب تاريخ اليوم، بينما المؤرخ يكتب تاريخ الأمس.. ولكن صحيفة اليوم هي مادة توثيقية للمؤرخين في المستقبل.. تضاف إلى مصادر أخرى يعتمد عليها المؤرخ ليكتب أحداث المرحلة التي يسجل وقائعها..
ونعود إلى الصحافة السعودية، فهي كذلك شهود عن المرحلة التي نعيشها اليوم، كما كانت شهوداً على مراحل سابقة من تاريخ تطور الدولة والمجتمع. ولهذا فما نقرأه اليوم على أنه أخبار أو آراء تمر علينا -في بعض الأحيان- مرور الكرام، هي مادة مهمة ومصدر نفسي لتاريخ اليوم بعد سنوات قادمة، عشر أو عشرين أو مائة عام.
وهذا الهاجس التاريخي والدور التسجيلي للصحافة يجب ألا يغيب عن ذهنية الصحافيين وكتاب الرأي عندما يكتبون اليوم عن وقائع المجتمع وأحداثه وتطوراته، فهم شهود عيان على المرحلة التي نعيشها في بلادنا، وهم عيوننا التي نرى بها، وهم آذاننا التي نسمع بها، وهم عقولنا التي نفكر بها.. وعندما يرتقي الإعلامي والصحافي والكاتب إلى مرحلة التفكير بهذه الطريقة، فسيضيف إلى مكونات شخصيته المهنية عنصراً آخر مهماً يساعده على قراءة حدث اليوم برؤية تاريخية، وببعد زمني مستقبلي.. وهذا ما نتوخاه من الأسرة الإعلامية التي تضعها دائماً في خلفية الحدث المحلي والدولي وفي إطار تفكير الرأي العام، ونبض الشارع وإيقاع الحياة..
والخطأ الذي يقع فيه الإعلامي أو الصحافي في صحيفة اليوم، هو خطأ قد يقع فيه المؤرخ في المستقبل، فقد يقرأ المؤرخ أن حدثاً قد تم في أحد الأعداد التي راجعها، ولكنه قد لا يقع تحت يده عدد اليوم التالي الذي تم فيه تكذيب وقوع هذا الحدث.. وسيسجل التاريخ وقوع هذا الحدث الذي لم يتم على أنه حدث قد تم في هذا المجتمع.. وقد يخطئ المحرر في معلومة كأن يقول مثلاً: إن نسبة المواليد في المملكة في تاريخ معين وصلت إلى مائة ألف، في حين أنها لم تتعدَ عشرة آلاف مولود.. لأن هذا المحرر لم يجد التعامل مع الأرقام، وأخطأ فيها، وسجل التاريخ هذا الخطأ كحقيقة مجتمعية.. وقد يجتهد كاتب في وصف حالة الرأي العام في المجتمع بأن أغلب الناس يرفضون كذا أو كذا، في حين أن الواقع يشير إلى غير ذلك.. ويأتي مؤرخ ليسجل للتاريخ أن المجتمع السعودي كان يرفض توجهاً معيناً في حقبة زمنية معينة، ولكن الواقع هو عكس ذلك تماماً.. فلم يستند الكاتب إلى دراسة أو إحصائية أو استطلاع علمي في هذا الخصوص.
وهكذا فإن عدم دقة المعلومة أو مصداقية الرؤية قد تساعد على تزوير التاريخ إلى الأبد.. ونعطي الأجيال القادمة رؤية غير دقيقة عن واقعنا، أو صورة مضللة لا تتفق مع نبض الحياة الذي نعيشه اليوم.. ويجب أن أؤكد هنا على أن أغلب ما ينشر في صحافتنا ووسائل إعلامنا المحلية -ولله الحمد- هو تقرير صادق عن الواقع، ورسم صحيح لما يدور بيننا، وتسجيل للحراك الاجتماعي، ولكن قد تطل علينا بين الوقت والآخر محتويات يقرأها التاريخ بطريقة مختلفة نتيجة ما قد ننشره ونبثه دون إدراك واعي بأهمية مثل هذه الموضوعات وتأثيرها على مجريات تاريخنا في المستقبل.
* رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية للإعلام والاتصال
أستاذ الإعلام المشارك بجامعة الملك سعود
alkarne@ksu.edu.sa