كثيرٌ من الناس يموتون وتموت معهم أفعالهم وأخبارهم ولا يحزن عليهم ولا يندبهم أو يتأثر بموتهم سوى أهلهم وذويهم؛ وذلك لأنهم عاشوا حياتهم لأنفسهم ومعارفهم، لكن هناك مِن الرجال مَنْ إذا مات حَزِنَ لموتِه وفقدِه الكثيرُ من الناس على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم؛ لما قدموه في حياتهم من أعمال جليلة ومآثر حميدة تبين للناس جميعاً أنهم عاشوا حياتهم لخدمة دينهم ووطنهم، وكثيراً ما كانوا سبباً في هداية الناس إلى دين الله تعالى، ومن أولئك الرجال الذين نذروا أنفسهم لخدمة دين الله تعالى تعليماً ونصحاً وتوجيهاً أخي وأستاذي الذي استفدت منه من صغري وبداية مشواري العلمي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالعزيز المنصور - الذي فُجعنا وفُجع كثير من المسلمين بموته. ولكن عزاءنا أن شيخنا يُعَدُّ من العلماء الذين خلَّفوا علوماً نافعةً وأفعالاً حميدةً مستقاةً من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، يُستفاد منها وتُخلِّد ذكرَهم، وتجعل عملهم مستمراً بإذن الله تعالى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنه عَمَلُهُ إلا من ثلاثةٍ إلا من صدقةٍ جاريةٍ أو علمٍ يُنْتَفَعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعُو لَهُ) رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ووفاءً بحق شيخنا أرى أن من الواجب عليَّ أن أبوح ببعض ما أعرفه عنه من المناقب الحميدة فلقد عرفتُ عنه ولمستُ فيه كُلَّ خلق حسن وتواضع جم ودماثة خلق ومسامحة كل مَنْ أخطأ في حقه وعدم الحمل عليه، بل إنه كان يدعو لكل مَنْ أساء إليه بالهداية والمغفرة، كما عرف عنه - رحمه الله تعالى - الرحمة والشفقة للقريب والبعيد، فما أن يصل إلى علمه مرض أحد من أقاربه أو معارفه إلا وسعى بنفسه لعلاجه والاستمرار بالسؤال عنه، وكان - رحمه الله تعالى - كريماً ويستبشر بزواره في بيته حتى إنه هو الذي يقوم بخدمتهم وتقديم ما تتطلبه الضيافة، ولقد كان - رحمه الله تعالى - الساعد الأيمن لوالدنا - رحمة الله تعالى عليهما - في التوجيه لنا أنا وإخوتي والمتابعة والتعليم والالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن الكريم والتحذير من جلساء السوء، وكان باراً بوالدنا وكان بره عجباً، فقد كان ملازماً له ولا يطيق مفارقته حتى إنه رفض أن يستقل بأهله وأولاده في سكن خاص لئلا يأتي عليه يوم وهو لا يراه فإذا ما سافر ورجع من سفره والتقى بوالدنا أجهش بالبكاء وبدأ يُقَبِّلُ رأسه ويديه ورجليه، ولما تُوفي والدنا - رحمة الله تعالى عليهما - لم ينسَ أقارب وأصدقاء والدنا حيث استمر في تعهدهم وزيارتهم مع ما يقوم به من أعباء العمل الوظيفي والدعوي والأسري، كما كان حريصاً - رحمه الله تعالى - على الدعوة إلى الله وتبصير الناس بأمور دينهم، ويدل على ذلك الدروس والمحاضرات التي كان يلقيها في المساجد والمناسبات الأسرية وغيرها، والخطب المنبرية التي كان يلقيها ارتجالاً وفي موضوعات شتى، وحينما كان كثير من الموظفين والمعلمين ينتظرون الإجازات الصيفية ليقضوها مع أهليهم وذويهم في المصايف وغيرها، كان شيخنا يقضي جميع إجازاته - في ريعان شبابه - داعياً إلى الله تعالى متنقلاً مع مجموعة من العلماء في دول الخليج العربي وغيرها. ولما انتقل إلى مدينة (بريدة) بعد تعيينه (عميداً لكلية الشريعة واللغة العربية بمنطقة القصيم) عام 1396هـ اقترح على الشيخ (صالح البليهي) - رحمه الله تعالى - إقامة الدروس والمحاضرات والندوات في عدد من جوامع بريدة فرحب بهذا المشروع وبدؤوا بتنفيذه فكانت له دروس أسبوعية في عدد من المساجد ببريدة، كما كانت له دروس يومية في شهر رمضان بين الأذان والإقامة في عدد من المساجد، واستمر - رحمه الله تعالى - في الدعوة والتعليم حتى أقعده المرض ولازم الفراش، وفي نهاية حياته قال لابنه (الدكتور ناصر): أتمنى أن أشفى لأخطب قبل أن أموت! ولقد حقق الله عز وجل له أمنيته فحينما أُدخل المستشفى وقبيل وفاته بساعات وهو على السرير الأبيض يعاني من سكرات الموت شرع في الخطب والدعوة إلى التوحيد، والتحذير من الشرك، والدعوة إلى الاعتصام بحبل الله والتكاتف وعدم التفرق والتحذير من الدخان والمخدرات.. ويردد الآيات في ذلك، ومن الآيات التي رددها: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ويردد: {وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}الآية، ولم يزل يخطب ويذكر الله ويتشهد ويحمد الله إلى أن تم تنويمه لأجل وضع أجهزة التنفس الصناعي عليه، ولم يصحُ بعدها إلى أن مات - رحمه الله تعالى - ولعل هذه من البشارة له بحسن الخاتمة إن شاء الله تعالى ومن توفيق الله عز وجل له.
ولئن غاب عنا الشيخ بجسده حيث ووري الثرى، فإنه لايزال - بحمد الله - يعيش بيننا بما خلَّفه من آثار حميدة وأعمال جليلة وتوجيهات مفيدة، وكذلك بما خلَّفه من مؤلفاته الفريدة وخطبه ومحاضراته المتميزة يستفيد منها كُلُّ مَنْ أراد العِلْمَ والفائدةَ، ووُفِقَ للاطلاع عليها والتأسي بها كيف لا وهي أعمال حثَّ عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فرحم الله شيحنا رحمةً واسعةً وجعل قبره روضةً من رياض الجنة، وجمعنا به ووالدينا والمسلمين أجمعين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين.
خطيب جامع عبدالرحمن الراجحي بحي الجزيرة في الرياض
a1d2b3m4@gmail.com