كنت متواجداً في إحدى مكتبات الرياض لشراء بعض الكتب التي أريدها، وأثناء تجولي بين رفوف الكتب وقعت عيني على كتاب يحمل اسم (الوطن في ضمير الشرفاء) لمؤلفه بدر بن علي العبدالقادر، فشدني العنوان كثيراً فاشتريته لقراءته، وبعد وصولي لمنزلي وضعته على الرف كعادتنا (الحميدة) وصادف في يوم ما وجود ضيف كريم عندي وأثناء غيابي عنه وعودتي وجدته يتصفح الكتاب، ويشيد به ويرغب مني إعارته لقراءته، وهنا تذكرته فاستبحته عذراً، لأنني لم أقرأه، وأشرت إليه أن يذهب ويشتريه، لأن الكتب المعارة لا تعود (كما هو معروف)، وبدأت في قراءته من الغد، وفي الحقيقة لو لم يكن من الكتاب سوى عنوانه لكفاه، فقد أسرني ما يحتويه من درر ثمينة تتغنى بحب الوطن، وأبهرني كثيراً بما يحمل الكتاب في صفحاته من معلومات مغيبة عنّا، تهدف إلى تعميق حب الوطن في النفوس، وفي الحقيقة أن المؤلف أجاد فيه كثيراً، وأبدع حين بعث هذا الموضوع من مرقده، وأبرز كنوز المعرفة التي يحفل بها موروثنا الثقافي الإسلامي، في الوقت الذي يتعرض فيه شبابنا لحملات عنيفة تستهدف هويته، وانتماءه إلى هذا الوطن الغالي، ومما يميز الكتاب أن الكتاب بسيط في طرحه، غزير في مضمونه، لا تكاد تبدأ في تصفحه حتى يأسرك تناسق عباراته، وتسلسل أفكاره، وتحدر بيانه، كل موضوع فيه لا يدعك حتى يسلمك للذي يليه، وسرني ما جاء في الكتاب من طرح قيم، ينم عن سعة اطلاع أخي، ومعرفته بأبعاد الموضوع، وما لمسته من حب وتمجيد لهذا البلد المعطاء، وأعجبني غيرته الوطنية واعتزازه بوطنه، وفي الحقيقة كلما خطر لي هاجس أو معنى من معاني الوفاء للوطن وجدت المؤلف قد أفاض فيه عبر وقفات متناثرة في الكتاب جديرة أن تحفظ عن ظهر قلب، وأن تعلم لناشئتنا، إن فكرة الكتاب لهي بحق رائعة، وهي تحمل رسالة خاصة تحث على حفظ الجميل لهذا الوطن بحبه وتقديره، والحفاظ على مقدراته، وطاعة ولاة أمره والدعاء لهم، فالكتاب هو أول كتاب من نوعه يناقش قضية حب الوطن بتتبع منابع التأصيل عبر اثني عشر مبحثاً، ناقش قضية حب الوطن في مبحثه الأول في القرآن الكريم، وأقوال المفسرين، وكثيراً من الآيات التي ذكرها المؤلف كنت أقرأها سابقاً دون أن أدرك أنها تحث على حب الوطن إلا بعد قراءة كتاب أخي بدر، وفي مبحثه الثاني أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وتعليقات شراح الحديث، مع ذكر بعض قصص الأنبياء في حبهم لأوطانها، وفي مبحثه الثالث ناقش المؤلف قضية حب الوطن من خلال أقوال الصحابة وبعض قصص حنينهم، وناقشها المبحث الرابع من خلال قصص حنين الملوك القدماء، وناقش المبحث الخامس القضية نفسها من خلال مقولات الحكماء التي تجسد حب الوطن، وفي المبحث السادس ناقش قضية حب الوطن من خلال مقولات الأطباء وبعض قصصهم التي تؤكد حبهم لأوطانهم وعلوقهم بها، أما المبحث السابع فناقشها من خلال قصص العلماء، وفي المبحث الثامن تطرق المؤلف إلى قصص الأدباء ومقولاتهم التي تثبت أن الوطن ثروة لا تقدر بثمن، ومثل ذلك ناقشها المؤلف في المبحث التاسع من خلال قصص الشعراء وبعض أبياتهم وقصائدهم التي تبين انتماءهم إلى أوطانهم، وشدة تعلقهم بها، ومثل ذلك في المبحث العاشر الذي ناقش المؤلف فيه قضية حب الوطن من خلال قصائد النساء، وبعد تطرق المؤلف إلى قضية حب الوطن من خلال قصص الأعراب ومقولاتهم، وختم الباحث مؤلفه بمبحث عن حنين الحيوانات لأوطانها وحنينها إليها.
هذا وقد حفل الكتاب بكثير من القصص والتعليقات والأخبار والآثار، خرج المؤلف في كتابه عن النمط التقليدي المتبع، فبدأه بمبتدأ من كتاب الله، ثم دعاء مخلص لله، ثم ابتهال وتضرع، ثم إضاءة زانها نص خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله، ثم إهداء الكتاب الذي وفق أخي بدر فيه كثيراً حين أهداه إلى كل من تأثر بمبادئ وافدة، أو أفكار منحرفة، أو مناهج دخيلة، أو ثقافات مستوردة عسى أن يستفيد ويفيد ليراجع نفسه، ويحكم عقله، طاعة لخالقه، واتباعاً لرسوله، واستجابة لولي أمره، وإرضاء لضميره وما أحسن هذا الإهداء قال عنها المؤلف، وأحببت في هذا المقال أن أذكر لكم مقطوعة رائعة من الكتاب ولكم الحكم، يقول المؤلف (... وهذا الكتاب قلّت صحائفه، وكثرت لطائفه، اشتمل على غُرر الأخبار، وفرائد الأشعار، وبدائع الآثار، وحوى ألوان المواقف، وزخر بأشتات الطرائف، وحفظ بين دفتيه نتاج القرائح، وحقائق السير، جمعت فيه شمل الطارف بالتليد، والقديم بالجديد، فأنفذت به إليه، وأوفدت عليه، وهو مجموعة مذاكرات تعد نماذج من أحلى ما قرأت عن حب الوطن والحنين إليه، وأغلى ما رأيت من حسن الانتماء والانسجام، وأشهى ما ينعت به سير الشرفاء، استخلصتها من بطون الكتب، فهي واسطة العقد فيها، وتختصر الطريق لمن أراد الوصول إلى الفائدة، أو إصابة كبد الحقيقة، وقد استأنست في بعضها بقصص وأخبار من زلّت بهم القدم، وظلموا أنفسهم، وطمس على قلوبهم، جمعاً للأخبار، وإيراداً للأحداث، وإبرازاً لكريم الأفعال، اعتضاداً لا اعتماداً، وتلك المذاكرات تفصح عن التجربة الناضجة، والكلمة الصادقة، والحكمة الناصحة, والوصايا النافعة، والمواعظ الجامعة، والرأي السديد، والمعنى الرشيد، والنوادر المليحة، والمواقف الرقيقة، فلك أن تتفيأ ظلالها، وتنتقل بين أشجارها، وتختار من ثمارها، وتشتار من أزهارها ما شئت، علك أن تحذو حذوهم، وتأخذ مأخذهم، وتسلك سبيلهم، وتستنهج منهاجهم، وتتبع مقصدهم، وتنحو نحوهم، وتقفو أثرهم، وتتخلق بأخلاقهم، وتأتم بعملهم، وتقتدي بفعلهم، وتتأسى بصنيعهم، وتتحلى بحليتهم، وقد ضمنتها بعض الآيات، والأحاديث، وكثيراً من الأشعار التي تخلد حب الوطن، لأن الشعر يخاطب المشاعر، ويصل إلى شغاف القلوب، ويظهر كوامن النفس، وخفايا الضمير، وخبايا المشاعر، فهو أنيس الغريب، ودليل الأريب، ومتاع الأديب، ويعبر عن فطرة فطر الله عز وجل الناس عليها، لا تبديل لفطرة الله عز وجل ثم ختمت المذاكرة بوقفات عن الوطن، دعتني إليها النفس الطموح، وفرضها عليّ الواجب، وباحت بها المشاعر، وأمطرني بها العقل، ففاضت على القلوب وجالت في الخاطر، وتدفقت على اللسان، فأحببت أن أذكرها لتكون للقارئ أنيساً، وللسامع جليساً، وللألمعي زاداً، وفضيلة هذا الكتاب جمع ما افترق، مما تناسب واتسق، واختيار قصص، وترتيب نماذج، على حسب ما بلغته الطاقة، واقتضته الرواية، واقتصرت عليه النهاية..). ولا أظن أنني بحاجة إلى مزيد من التوضيح عن هذا الكتاب بعد هذه المقدمة الذهبية التي تكتب بماء الذهب الذي لا يصدأ على مر السنين، ختاماً إن هذا الكتاب يقدم نموذجاً متميزاً في التعبير عن حب الوطن عن طريق الفهم العلمي العميق لمعنى الانتماء، وهو الطريق الصحيح لبناء ثقافة وطنية صادقة وثابتة على مر الأجيال. أقدر لأخي هذه الغيرة وهذا الإصدار المميز الذي ستتزين بها مكتبتي كما زينت عقول وأفئدة الآخرين الشغوفين بإبداعات أدبائنا وكتابنا الذين نفخر بهم وستفخر بهم الأجيال القادمة، تحية محبة وتقديرا وإجلالا لك أخي العزيز بدر، وأشكر لك هذا الإصدار الجميل الذي قدمته للوطن في وقت نحن بحاجة له، وأتمنى لك التوفيق في إنتاجك العلمي.
aqws1234@gmail.com