لا تمنحنا الصحراء أسرارها بصورة مباشرة، فللوهلة الأولى حينما نتأمل الأفق الصامت والكثبان المنكفئة على صمتها الأزلي، سنحس بالوحشة والهباء فلا أحد هناك.
وسنحتاج إلى كم هائل من الوقت نمضيه بين كثبانها وسهولها قبل أن تأنس بنا، بوجودنا، ولتتحلل من حذرها واستراباتها من الغرباء وتقترب بحياء، عندها فقط ستناولنا أسرارها بهدوء وروية، وستدنو منا مخلوقاتها ببطء حذر، بعضها للتحية... وبعضها للاكتشاف. وستشرع لنا بواباتها الذهبية، ومدن السندباد التي تظهر لليلة واحدة فقط كل مائة عام، ستتجلى لنا الصحراء بذلك الصمت المهيب الجليل، والنجوم التي تدنو حتى تلامس موقد الجمر، والهواء الذي يقطف ملايين الأسرار من فوق الكثبان القابعة هناك منذ الأزل.
المخيمات الصحراوية التي تطوق مدينة الرياض تحاول أن تستعيد نكهة الصحراء من ذاكرة المدنية، الأفق الرحب، والغموض القابل لكل الاحتمالات، يهرب أهل المدينة هناك، يخلفون وراءهم صرامة الأسمنت، وعقارب الساعات القارضة للسكينة، يلوذون بوحشة الصحراء عن لغط المدينة.
لكن مع الأسف الإنسان الذي قاده دماغه المتضخم إلى أن يسيطر على بقية مخلوقات الله، لا يكون ودودا ورحيما مع محيطه، بل يجلب معه إلى الصحراء من المدينة قوانينه الشرسة المتعجرفة التي تعامل البيئة بفوقية وجشع.
في أول إجازة الربيع البرية تشرع الصحراء أيديها واسعة وتفسح للخيام مكانا بين كثبانها، لكن من يطلب (المرباع) يمضي وقته هناك في تلويث البيئة والاعتداء على مخلوقاتها وإقلاق راحة الصحراء وسكونها بثرثرته وهدير سياراته.
أتأمل حطب السمر في الموقد الصحراوي والنيران تلتهمه بنهم، نفوز نحن بلحظات ياقوتية دافئة بينما تكون شجرة السمر قد قصفت وأعدمت, سيرة ( شجرة السمر) تحجب عني متعة الجمر، أتأمل كم من السنين قضتها هذه الشجرة، كي تشب وتشرئب وتنمو متحدية قوانين الصحراء ؟ كم من الأيام أمضتها تقارع بها الهجير واللوافح، والشمس الجهنمية، وقطعان الإبل، ووحشة الصحراء، وليالي شتوية تجمد الدماء في عروقها, كم من السنين تعاقبت على شجرة السمر، وهي منذورة بترقب غيمة تلوح في الأفق تحمل في أعطافها الحياة، ولتناولها مؤونة حول كامل ؟ (شجرة السمر) الشجرة الصحراوية النبيلة المناضلة تقصف وتعبأ في الشاحنة ويقذف بها شهيدة سويعات هانئة يثرثر بها البشر مستائين من ارتفاع أسعار الحطب.
الجرابيع مخلوقات الليل الطريفة (كنجارو) الصحراء يطارد ويصطاد وينتهي به الأمر بين فكي كلاب الصيد قطعان الإبل التي تمر بالخيام سعيدة أنها نجت من العلف المسموم ومازالت تظن بالبشر خيرا، وتقترب من خيامهم بود، الصحراء مازالت تأنس بالبشر وحضورهم، ولم تكتشف بعد طباعهم الأنانية الظالمة بحق أمهم الصحراء.