ها هي ذاكرتي التي طالما انتزعتني من تأملات حاضرة في واقع مجتمعنا، وقذفت بي بين إعجاز نخيل الماضي لأتذكر الحب العذري القديم، وكيف كبر الحب بين قيس وليلى، وكثير عزة وجميل بثينة، ولأتذكر البيت الذي يقول فيه الشاعر: |
وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري |
أحبتي: ذاك هو الحب.. نعم، هو الميل الدائم بالقلب الهائم وهو إيثار المحبوب على جميع المصحوب، وهو موافقة الحبيب في المشهد والمغيب؛ فيه يكون ثبات القلب على أحكام الغرام ولو زاد فيه الملام. |
أريدك أن تقول لزوجتك: (أحبها وتحبني).. ذلك أن الحب هو ماء الحياة وهو سرها وهو لذة الروح وروح الوجود، ولولا الله ثم الحب ما التف الغصن على الغصن، ولا عطف الظبي على الظبية ولا بكى الغمام على جدب الأرض، ولا ضحكت الأرض لزهر الربيع.. لقد قال الشاعر مبيناً حقيقة الحب: |
إنما الحب صفاء النفس من حقد وبغض |
إنه أفئدة تهوي وتأبى هتك عرض |
وجفون حذرات.. تلمح الحسن فتغضي |
أنت الآن يا عزيزي في محطة الجزيرة الصحيفة.. وتقرأ سطوري هذه.. وقد أثيرت كوامن الحب الأسري في داخلك بسحر هذه الكلمة.. كم أتمنى أن تخطف زوجتك وتسافر بها لجزيرة بعيدة وتقضي بقية عمرك لتتأمل جماله، بل وتحسد نفسك على امتلاكك لها فهو ليس تلاعباً بقلوب العذارى، بل هو واقع الحب العذري العفيف.. فساهموا في قلوب العذارى كما تتسمرون أمام شاشات الأسهم والبورصة لتتابعوا أسهمكم التي تكسرت نصالها في صالات الأسهم!! |
حقيقة ما أروع أن تمارس الحب العملي مع زوجتك يوم أن تمرر أطراف أناملك على قسمات وجهها. ولترفع عينيها إليك وكأنك تتأملها ولأول مرة ولتقول: (إني أحبك) أريدك أن تبدد حيرتها تلك التي جعلتها توجه نظرها إلى الأسفل ولترفع نظرها ولتقول لك: (أنت حيرتي وهداي.. وأنت ظما عمري.. وأنت النهر الذي يروي عطش سنيني). |
ما أروعها عن عبارات تفيض رومانسية لكل من أحب أن يجدد حبه مع زوجته وأهله: |
ما العيش إلا أن تحب |
وأن يحبك من تحب |
ومن فيض هذا الحب الجميل استحضرت ذلك النموذج الرائع لرسول الرحمة عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم يخاطب زوجاته برفق ولين، ولا يجد مانعاً من أن تناقشه الواحدة منهن ويترك لها حرية المبادرة والمناقشة كأن يشاور أهله وزوجاته إذا احتاج إلى مشورتهن، فيسمع رأيهن بكل صدر رحب ويشرن عليه بالرأي الصائب؛ فإننا نجد أم سلمة - رضي الله عنها- تبدي رأيها في صلح الحديبية، وذلك عندما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم- من الصلح، وقال لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا، فما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فدخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: (يا نبي الله أتحب ذلك، اخرج، ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر وتدعو خالقك. فقام فخرج فلم يكلم أحداً حتى فعل ذلك، فما إن رأوا ذلك إلا قاموا ونحروا وجعل بعضهم يحلق لبعض حتى كاد بعضهم يقتل بعضهم غماً!! |
فهنا يتجلى حب النبي لزوجاته وسماعه لرأيهن ومشورتهن وتقديرهن!! |
تذكرت مقولة الأعرابية التي أشعلت جذوة الحب في قلب زوجها حينما قالت: |
أدعو الذي صرف الهوى |
مني إليك ومنك عني |
أن يبتليك بما ابتلا |
ني أو يسل الحب مني |
آآآآآه ما أروعها من مشاعر صادقة وجميلة افتقدناها في جو حياتنا الأسرية والزوجية، وليتنا نشيع مثلها بيننا في فضاءات حبنا العذري العفيف مع زوجاتنا. |
نعم، الحب هو أكسير السعادة في علاقاتنا الزوجية. |
قد يتوهم بعض الأزواج أن محبته لزوجته ورقته معها وبثه إياها كلمات الغرام والعشق والهيام علامة نقص على رجولته، أو ضعف في شخصيته أو سيطرتها عليه. |
وهنا أرد على كل زوج يرفع لواء هذه النظرة بقول ابن القيم الذي يقول: |
(وأما محبة الزوجات فلا لوم على المحب فيها، بل هي من كماله -أي من كمال الرجل وتمام رجولته - وقد امتن الله سبحانه بها على عباده فقال {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} فجعل المرأة سكناً للرجل، يسكن قلبه إليها، وجعل بينها خالص الحب وهو المودة المقرونة بالرحمة!! |
وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- سئل: (من أحب الناس إليك؟!! فقال عائشة فقيل من الرجال فقال: أبوها (رواه البخاري) لنتبع ذلك الهدي النبوي يا أحبة إذ لا عيب على الرجل في محبته لزوجته وعشقه لها إلا ذا شغله ذلك عن محبة ما هو أنفع له من محبة الله ورسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وزاحم حبه وحب رسوله، فإن كل محبة زاحمت محبة الله ورسوله وكانت من أسباب قوتها فهي محمودة. |
وهذا ابن القيم يقول: (فعشق النساء ثلاثة أقسام: عشق هو قربة وطاعة وهو عشق الرجل امرأته وجاريته، وهذا العشق نافع فإنه ادعى إلى حصول المقاصد التي شرع الله لها النكاح، وأكف للبصر والقلب عن التطلع إلى غير أهله!! ولهذا يحمد هذا العاشق عند الله وعند الناس (كتاب الجواب الكافي لابن القيم). |
أحبتي.. وثمة هناك حب غير ممدوح وهو حب الخنا، وذاك الحب ينشأ في بيئة غير بيئة الزواج الذي أحله الله ورغب فيه ففي هذا الحب غير الممدوح نجد حباً عاطفياً وغرامياً دائماً ما يحمل لواء الفسق والفجور المرفوض، وتتسامق فيه بل وتصرخ تلك النزوات الشيطانية عبر دوائر من عواطف مبتذلة وأحاسيس كاذبة ومخدوعة ومشاعر تباع وتشترى في سوق الهوى..!! |
وما أسرع ما ينهار هذا الحب ويسقط بالكلية بعد الزواج مباشرة في أغلب حالاته. |
وها هو الشاعر يصف هذا الحب الفاسق الممجوج والذي يسمونه حباً وهو منهم براء حيث يقول: |
يتندر العشاق فيما بينهم |
ويقاطعون مكارم الأخلاق |
ويمهدون له بكل عبارة |
مأخوذة من دفتر الفساق |
كسروا براءته وطافوا حولها |
يستهزئون بطهرها المراق |
وتعلقوا بغناء كل غريقة |
في لهوها مصبوغة الأشداق |
الحب في العصر الحديث رواية |
ممسوخة عرضت على الأطباق |
|