انتشرت مناطق الصناعات التقنية منذ الخمسينيات وكانت بدايات ظهورها في الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد أثبتت مناطق الصناعات التقنية نجاحها كبيئة للارتقاء بالمستوى الصناعي وبناء القاعدة الصناعية، ولتسريع عملية نقل التقنية المرتبطة بالصناعات التقنية، كما كان لها دور فعال في بناء تكتلات لصناعات تقنية ذات ميزة تنافسية عالمية وقيمة مضافة عالية ساهمت في تنمية اقتصادية للأقاليم والدول الصناعية والعديد من الدول شبه الصناعية والدول النامية حول العالم التي أنشئت فيها هذه المناطق والأمثلة عديدة على تلك الدول، ولكن على سبيل المثال لا الحصر نجد الصين، سنغافورة، ماليزيا، كوريا الجنوبية، فنلندا وأيرلندا.
وسنذكر مثالين فقط من هذه الدول حتى نعي أهمية تلك التجمعات التقنية ومدى تأثيرها على الاقتصاد:-
الصين
أنشأت الحكومة الصينية منذ عام 1984م مناطق تنمية الاقتصاد والتقنية على مستوى الدولة من خلال برنامج وطني مدعوم من الحكومة بهدف جذب الاستثمارات الأجنبية، وتتمتع تلك المناطق بالسياسة التفضيلية الممنوحة من الحكومات المركزية والمحلية، وحتى الآن تنتشر أكثر من 53 منطقة تنمية للاقتصاد والتكنولوجيا في أنحاء الصين، وخلال السنوات العشرين الماضية، أصبحت مناطق تنمية الاقتصاد والتقنية الوطنية هي المناطق الاقتصادية الأسرع نمواً في الصين وأكثر تجمعاً من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية بنمو سريع وصل إلى 25%، حتى وصلت الصين الآن لأن تكون أحد أكبر ثلاث دول تجارية في العالم.
ماليزيا:
تحولت ماليزيا من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية خاصة القصدير والمطاط، إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من إجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية.
وكانت النتيجة الطبيعية لهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من إجمالي السكان في عام 1970، أي أكثر من نصفهم، إلى 5% فقط أو أقل، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولار في عام 1970إلى 8862 دولار في عام 2002، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%.
بالطبع لم يتحقق كل هذا من فراغ، بل جاء كنتيجة حتمية لمجموعة من السياسات التي جعلت ماليزيا تتمتع بأحد أفضل بيئات الاستثمار في جنوب آسيا، وذلك من خلال تركيز ماليزيا على الصناعات التقنية التي أولتها اهتماما بالغا.
وقبل الخوض في واقع تلك المناطق والصناعات في المملكة ينبغي أولا معرفة ما هو المقصود (بمناطق الصناعات التقنية)، مصطلح مناطق الصناعات التقنية ينطبق بالتحديد على المناطق (المجمعات) التقنية (والعلمية) التي تكون مهيأة لاستقطاب الصناعات التقنية، وعادة ما تحفز مناطق الصناعات التقنية تكتل صناعات وأنشطة تقنية تكون مربوطة ضمن سلسة إمدادات عالمية للمنتجات التقنية، ويتمثل الاختلاف الجوهري بين مناطق الصناعات التقنية والأنماط المختلفة من مناطق (مجمعات) التقنية (والعلوم) في تركيزها على الإنتاج والصناعة، وليس فقط على البحث والتطوير والأعمال والتعليم.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى لتلك المناطق فإن المملكة تعد من ضمن الدول القليلة في العالم التي لم تتوسع في إنشاء مناطق صناعات تقنية، ولعل السبب في ذلك هو عدم وجود استيعاب كامل لمفهوم وفوائد هذه المناطق سواء على مستوى القطاع العام أو الخاص، مما أدى إلى عدم التوسع في الاستثمار في إنشائها.
ومن أجل ذلك ينبغي إلقاء الضوء على فوائد تلك المناطق للاقتصاد السعودي حيث تعد هذه الفوائد من ركائز التنمية المستدامة، فهناك علاقة وطيدة بين مناطق الصناعات التقنية والتنمية المستدامة، حيث إن نجاح الصناعات التقنية يتطلب تكوين بيئة معينة يترابط من خلالها الإنتاج، والبحث، والتطوير، وتأسيس الشركات، وتمويل المنتجات وإنتاجها وتسويقها، والخدمات وتكون في مكان واحد، وتتكون هذه البيئة من بنية تحتية حديثة وخدمات متقدمة في الإمكان تجسيدها في إطار عمراني متفاعل صناعياً وعلمياً وتجارياً بما يسمى بمناطق الصناعات التقنية.ويمكن تلخيص الدوافع لإنشاء مناطق الصناعات التقنية في المملكة في تنويع مصادر الدخل الوطني والقاعدة الاقتصادية، والمساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني، تنمية صناعات إستراتيجية وحيوية جديدة وإيجاد منشآت صناعية محلية (وطنية وأجنبية) تنتج منتجات وخدمات مبنية على المعرفة وذات قيمة مضافة عالية تنافس على المستوى العالمي، استقطاب المصانع (المتوسطة أو العالية) التقنية ومقدمي الخدمات المبتكرة المبنية على المعرفة مع اجتذاب الاستثمارات (المحلية والأجنبية) المرتبطة بها، توفير وظائف جديدة عالية الأجر للمواطنين، توجيه النمو الحضري والعمراني (والسكاني) إلى مناطق حضرية جديدة توفر العمل والعيش الكريم، والاستفادة منها كأداة لتخفيف الضغط على المدن الكبرى.
وبناء على مقومات المملكة ومواردها الطبيعية ووضعها العالمي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والسكاني، واستنادا إلى خطط التنمية الخمسية، والسياسة الوطنية للعلوم والتقنية، والخطة الوطنية لتقنية المعلومات، والإستراتيجية الصناعية، وإستراتيجية الهيئة العامة للاستثمار فإنه يتحتم الدخول وبقوة في بناء مقدرة صناعية تقنية (متوسطة وعالية) لعدة مجالات ذات أبعاد إستراتيجية للاقتصاد والأمن القومي ومنها: تقنيات الطاقة (البترول - الغاز)، البتروكيماويات المتقدمة، تحلية المياه، الصحة والدواء، التقنية الحيوية، تقنية المعلومات والاتصالات والالكترونيات، البيئة، المواد الجديدة، المنتجات (المتوسطة والعالية) التقنية والخدمات المبتكرة ذات العلاقة بالحج والعمرة، تقنيات زراعة وصناعة التمور.
ومن أجل ذلك كله فقد وضعت الخطة الخمسية الخاصة بمناطق التقنية التي تتضمن ثمانية برامج عامة تشمل 190 مشروعاً بميزانية تصل تكلفتها إلى ستة مليارات ريال أي حوالي 1.6 مليار دولار بالإضافة إلى وجود خطة وطنية شاملة لمدة 20 سنة لكافة جوانب المنظومة.
وهناك عشرة أسباب إستراتيجية وضعت لهذه الخطة تتمثل في تبني رؤية شمولية وتفعيل دور التعليم والتدريب وتعزيز القدرات الوطنية وتبني اتجاهات رئيسية للتطوير وتنويع حصاد الدعم المالي وتطوير التقنية ودعم ورعاية القدرات البشرية وتطوير الأنظمة التي تحكم أداء المنظومة الوطنية وتطوير مختلف أوجه التعاون العلمي والتقني وإتاحة المعلومات العلمية والتقنية، وقد تم رصد مبلغ 220 مليون ريال للبدء في أعمال البنية التحتية الخاصة بإقامة ثلاث مناطق تقنية في البلاد، وهي منطقة صناعات تقنية للمعلومات والاتصالات والالكترونيات في منطقة الرياض، منطقة صناعات تقنية للبتروكيماويات المتقدمة والمواد الجديدة في المنطقة الشرقية، منطقة صناعات تقنية لتحلية المياه والتقنية الحيوية في منطقة مكة المكرمة.
ومن أجل تطبيق تلك الخطة الطموحة فهناك من التوصيات التي يجب أن تأخذها الدولة في الاعتبار، ومنها أنه يجب أن يتم ربط الكوادر العلمية السعودية من أساتذة الجامعات والمعيدين وغيرهم بمناطق الصناعات التقنية، مع تعديل الأنظمة بما يسمح لهذه الكوادر بالعمل وتملك حصص في الشركات، وتقديم منح أبحاث عالية المستوى للمشاريع البحثية المرتبطة بنشاطات المنشآت المتواجدة في مناطق الصناعات التقنية، وضع برنامج دعم تقنية موارد بشرية جديدة عالي المستوى ليساهم في توظيف وتدريب المهندسين والعلماء والفنيين السعوديين من الذكور والإناث، في المنشآت المتواجدة في مناطق الصناعات التقنية، هذا بالإضافة إلى إعفاء ضريبي كامل الشركات الأجنبية المشاركة في تطوير وتشغيل مناطق الصناعات التقنية أو القاطنة فيها والأفراد العاملين بها، والسماح بإعفاء جمركي بالكامل للأجهزة والآلات، والمواد الأولية والمتوسطة، والبرامج والأنظمة وما يتعلق بالحماية الفكرية، لمطوري ومشغلي مناطق الصناعات التقنية والشركات العاملة بها.
Asa5533@hotmail.com