(في البادية السورية عرفت ابن صديقي أبي عبدالله واسمه جاسم. كان في السادسة من عمره عندما قابلته أول مرة، طفل هادئ وصامت. يشع من عينيه ذكاء خاص وشرود يشبه شرود المتأمل. كان دائماً يراقبني بهدوء ويتحدث معي بالطريقة نفسها. كل شيء في ذلك الطفل كان يوحي بأنه....
... سيصبح كاتباً أو شاعراً لو كان طفلاً في اليابان. بعد عشر سنوات رمى جاسم موهبته كلها وأصبح راعياً نموذجيا كما يتوقع منه المجتمع)... هذا ما قاله (المستعرب) الياباني المرموق (نوبوأكي نوتوهارا) في كتابه القيم (العرب- وجهة نظر يابانية، منشورات الجمل، 2003م) .
كان طالباً استثنائياً حين كان يدرس (الهندسة) في مدينة الرياض، وكان يمكن أن يكون مهندساً باذخ الموهبة، فارط العبقرية، لولا مشورة (صادقة) جاءته من قريب، لتخرجه من (العلم الدنيوي) إلى (العلم الحقيقي)، فالأجر كل الأجر والفخر كل الفخر يكمن في العلوم الشرعية؛ وذلك بحسب ما يراه ذلك (الموجه) الناصح، أما الهندسة فهي مجرد علم دنيوي يقوم على مبدأ (فرض الكفاية)... والمهندسون ُكثر ... خسر صاحُبنا التميز الهندسي الممكن ولم يحقق النجاح الشرعي المنتظر!
تلك المشاهد (الحرشاء) على جسد الإبداع وأمثالها كثير تؤكد على أن المهمة الأصعب أمام مؤسسة (موهبة) لكي تحقق رسالتها بعد تطوير نظامها الأساسي هي (الثقافة)، وسأفصح في هذا المقال المختصر عن بعض الجوانب التي تعضد تلك النتيجة... صحيح أن الثقافة وحدها لا تطيق أن (تخلق) المبدعين والموهوبين في أي مجتمع إنساني ولكنها تستطيع (قتلهم) أو (سحقهم)...وبالذات من المبدعين الذين لا يندرجون في الفئة الأولى للإبداع... هذه حقيقة، وفي الوقت ذاته يمكننا أيضاً أن نقرر أن عدداً كبيراً من الأبحاث النظرية والدراسات التطبيقية تؤكد على خطورة وضخامة تأثير الثقافة على الإبداع، إيجاباً وسلباً، وتشير تلك الأبحاث والدراسات إلى أن الإبداع في جوهره عمليات ذهنية خلاّقة ومنتجات غير تقليدية يصنعها الإنسان في محيط ثقافته وبيئته التي يعيش داخلها، كما برهنت على أن الإبداع كمفهوم وأنواع ومعايير وقيم وسمات ومحكات قياس يتأثر بالثقافة على نحو لا مفر منه، فالثقافة هي التي تحدد للإنسان طبيعته وغايته الكلية في الوجود وتشكل لديه طرائق التفكير وتبني منظومته القيمية والمعيارية ومزاجه الخاص، وثمة إجماع بين الباحثين المتخصصين على أن الجزء الأكبر من الأدبيات العلمية للإبداع قد تشكلت داخل رحم الثقافة الغربية وتحديداً الأمريكية، ويذهب بعض الباحثين إلى أن ذلك يعني أن نتائج الدراسات وأدوات الاستكشاف والقياس غير قابلة للتعميم، حيث إنها (متحيزة) إلى تلك الثقافة بمنطلقاتها وقيمها وتركيبتها الاجتماعية والسياسية وأوضاعها الاقتصادية.
ولم تكن (الثقافة) عاملاً محورياً في دراسات الإبداع لعدة عقود من البحث النظري والتنقيب الميداني حول العوامل المشجعة والمعيقة للإبداع؛ لاعتقاد البعض الخاطئ بأن الإبداع ظاهرة عالمية Universal في جميع أبعاده ومفاهيمه، غير أن المشهد بدأ يتغير في السنوات الأخيرة، ومن أهم الشواهد على ذلك دعوة البروفيسور الهندي (رينا ) Raina لكتابة فصل عن تأثير الثقافة في الإبداع في الموسوعة الضخمة للإبداع Encyclopedia of Creativity التي حررها العالمان الشهيران (رانكو) Runco و(بريتزكير) Pritzker الصادرة عام 1999م عن Academic Press والتي يقترب عدد صفحاتها من 2000 صفحة من القطع الكبير، وفي العام نفسه أصدرت جامعة كامبرج كتاباً تفصيلياً وعميقاً عن الإبداع حرره العالم الأمريكي الشهير (روبرت ستيرنبرج) Sternberg ودعي الباحث الفرنسي (لوبارت) Lubart لكتابة فصل عن الثقافة والإبداع. وهنالك كتب هامة أخرى صدرت في الفترة نفسها لعدد من الباحثين البارزين الآخرين.
أما البحث العربي فإنه ? كالعادة- ينتظر من يخبره بأن هذا العامل أو ذاك مؤثر أو مهم ليتحرك وينتفض بأدواته التحليلية للمقايسة الكمية، وطبعاً بالأدوات التي استوردناها داخل إطار النظريات والنماذج الغربية، مما يعني أننا نمارس في الأغلب شكلانية البحث، فنحن لا نمارس أكثر من (الدوران البحثي) حول ثقافة الغرب وبيئة الغرب، فالعوامل المؤثرة هناك يجب أن تكون مؤثرة عندنا!!
وفي ضوء تحليل الكاتب للأدبيات العلمية بجانب ما انتهى إليه في بعض أبحاثه المنشورة وغير المنشورة فإنه يمكن تدوين العديد من النتائج الهامة، ولعلنا نجمل بعضها فيما يلي:
1- الثقافة هي التي تشكّل الأبعاد الهامة في الإبداع: مفهوم الإبداع، فضاءاته، معايير تقييمه، مما يجعل الثقافات المختلفة تتفاوت فيما بينها في تشجيع هذا اللون من الإبداع أو ذاك، وفي حال إدخال (المفردات الرديئة) للثقافة فإن التحليل يتعقد بشكل كبير، مما يستدعي استخدام منهجية علمية متعمقة وأدوات (نوعية) فائقة الفاعلية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الثقافة لها مستويات متعددة، فهنالك الإطار العام لثقافة المجتمع وهي هنا الثقافة العربية الإسلامية، وهنالك الإطار الخاص ونعني بها الثقافة السعودية، وهنالك أطر أضيق وهي الثقافات الفرعية في المناطق، وفي المدن داخل كل منطقة وهكذا. كل هذه الأطر يجب أن تخضع للبحث والمدارسة مع التركيز على الثقافة الخاصة للمجتمع السعودي.
2- بعض الثقافات تركز في الإبداع على (العملية الإبداعية) وتغلب الجوانب النفسية التي تتجسد في (تحقق ذاتية) المبدع عبر ممارسته للعملية الإبداعية مما يجعل تلك الثقافات تعلي من شأن بعض الأعمال الإبداعية كالفن والشعر، في حين تركز ثقافات أخرى على (الناتج الإبداعي) كمحك للإبداع وبرهان على أصالته وقيمته.
3- دراسة العوامل الثقافية سيعين على تلمس ما يسمى ب (الأقفال الذهنية) Mental Blocks داخل كل ثقافة، وهي تلك التي تصد عن الإبداع وتزهد فيه بطرق متنوعة، نفسية كانت أو فكرية أو مزيجاً بين هذه وتلك، ليس ذلك فحسب بل سيعين ذلك الاستكشاف للإقفال على توفير بعض متطلبات بناء نظرية للإبداع تلائم الثقافة المحلية وتستجيب لاحتياجاتها ومقاساتها من خلال تحديد أهم (المعوقات) للممارسة الإبداعية. ومن الأقفال المحتملة التي يمكن دراستها وإخضاعها للتفحص الدقيق ما نسميه ب (الشيوخ أبخص) أو (ما ترك لنا الأوائل شيء)، (خليك في المضون) ونحوها، ولعل في الشواهد التي سقناها في مطلع المقال ما يؤكد على خطورة أقفالنا الذهنية على الممارسة إبداعيتنا!
4- تختلف الثقافات بشكل جوهري فيما يتعلق بمكافأة أو عقاب الممارسة المحسوبة على الإبداع لاسيما تلك الممارسات أو التجارب التي تتوفر على درجة كبيرة من اللاتقليدية أو المخاطرة، سواء كان ذلك في محيط المعاملة الوالدية في البيت أو المعاملة التربوية في المدرسة أو النهج الثقافي بشكل عام. كما تختلف الثقافات فيما يتعلق بالرعاية أو الإشراف التي يمكن أن تقدم للمبدع، حيث تختلف نظرة المبدعين في ذلك، مما يوجب العناية الفائقة لتصميم ذلك اللون من الدعم بطريقة ملائمة للثقافة، وبما لا ُيشعر المبدع بأن ثمة وصاية تخنقه!!
5 - تتمايز الثقافات فيما بينها فيما يتعلق بالتركيبة الاجتماعية من حيث نظامها ومستوياتها ونسقها ورموزها وطقوسها، وقد أثبتت بعض الأبحاث تأثير تلك التركيبة على الممارسة الإبداعية.
6 - قضية الجنس (ذكر- أنثى) من المسائل التي خضعت لبعض الدراسات في ثقافات متنوعة، ولم تنته إلى نتائج حاسمة، ويمكننا الوصول إلى نتائج معقولة في ضوء ثقافتنا المحلية عبر دراساتنا المتعمقة لتلك المسألة.
7 - اللغة وتأثيرها على الإبداع مسألة نالت قدراً من العناية البحثية، وذهب بعض الباحثين إلى أن اللغة هي التي تشكل الفكر ومن ثم الإبداع، وقد خلصت بعض الأبحاث إلى أن الأفراد الذين يتقنون أكثر من لغة لديهم قابلية أكبر للإبداع، وهذه نتيجة يجب التثبت من اتساقها ودقتها في ثقافتنا المحلية.
8 - تعرض بعض الباحثين لما يمكننا تسميته ب (انطفاء الإبداع)، وذلك باستكشاف وتحديد العمر الذي يبدأ عنده الإبداع بالضعف والتناقص لدى الطفل، وانتهى أولئك الباحثون إلى وجود فروق بين الثقافات في هذا الخصوص، حيث نجد أن بعض الثقافات لا تمد الطفل بالعوامل الضرورية للإبداع ولاسيما ما يتعلق بالدافعية الداخلية وتنمية الخيال ، بل قد يكون الأمر أسوأ من ذلك، حيث (تجهد) ثقافات للانقضاض السريع على (الطفل) لتخلصه من (تبعة) الإبداع وحمولته الثقيلة!
9 - ليس هناك سمات (عالمية) تفصيلية للأطفال الموهوبين بل ثمة اختلافات بين الموهوبين في المجتمعات المختلفة، وهذه الاختلافات تعزى للإطار الثقافي للمجتمع، مما يوجب إجراء دراسات ميدانية لتحديد تلك السمات في مختلف المناطق.
10- لم يعد مقبولاً منهجياً قياس الإبداع في ثقافة معينة باختبارات مقننة صُنّعت في ثقافات أخرى، حيث تتفق نتائج مجموعة من الدراسات على وجود غموض في فهم تلك الاختبارات بمفاهيمها وإجراءاتها ومحكاتها لدى الأفراد الذين لا ينتمون إلى الثقافة التي أعدت فيها تلك الاختبارات.
وبخصوص الجانب التنظيمي الذي يعضد توصيتنا بإيلاء الثقافة ما تستحق، فلابد من الإشارة إلى أنني لم أطلع على الهيكلة التنظيمية الجديدة للمؤسسة، ولكنني أتمنى أن يكون هناك وحدة تنظيمية في الهيكل أو على الأقل لجنة دائمة تعنى بمسألة (ثقافة الإبداع) مع تخصيص موارد مالية كافية لدعم وتشجيع البحث العلمي المتعمق وبالذات البحث النوعي الذي يستهدف التنقيب عن أقفال الإبداع ومكائد الابتكار ومصائد الموهبة في مجتمعنا. بل إنني أرى ضرورة تأسيس كرسي بحثي متخصص في تلك الدراسات في بعض جامعاتنا ويمكن لنا أن نوفر له وقفا خاصا به، يضمن له الاستمرارية والتوسع ويعين على تحقيق الجودة البحثية، كما يمكن أن نؤسس مجلة علمية محكمة في مجال الإبداع مع إعطاء مسألة (ثقافة الإبداع) أولوية بحثية.
beraidi2@yahoo.com