Al Jazirah NewsPaper Sunday  17/02/2008 G Issue 12925
الأحد 10 صفر 1429   العدد  12925
مَن يَمنُّ ب(توبة).. ويؤذي ب(استقامة)..؟!!
حمَّاد بن حامد السالمي

إذا وجبت صلاة الفريضة، نتجه إلى المساجد، والركبان منا في هذه الأوقات يبالغون في السرعة، حتى يدركوا الصلاة مع الجماعة، وبعضهم لا يبالي بأنظمة السير، ولا يحترم إشارات المرور، فهو لم يأبه قبلها بحق الوظيفة عليه..! ولهذا.. فهناك من يتسبب في إيذاء المارة، وقد يكون وراءه حوادث سير أليمة، وإذا.....

..... وصل إلى المسجد، أوقف سيارته كيف ما اتفق، فهي تعترض الشارع أو تسده بالكامل، أو تمنع خروج سيارات لآخرين، فمما نشهد عادة حول الجوامع والمساجد ذلك الوقوف الاعتباطي غير المنظم، واعتراك بعض المصلين بعد خروجهم، نتيجة لوقوف خاطئ تسبب فيه بعض آخر، ممن تخلف بعد الصلاة في المسجد، يتسنن ويهلل ويسبح، وهو قد آذى بقية المصلين، ومثل ذلك مناظر تتكرر عادة قبيل الإفطار في رمضان، حين تُنتهك الأنظمة في الشوارع، وتُقطع إشارات المرور، وتتجاوز السرعات ما هو محدد لها، ولكل حالة من هاته وتلك، ما يبرره عندنا، بطاعة رب العالمين وإدراك الفريضة مع الجماعة، والصلاة والعبادة، وما إلى ذلك.. نؤذي بعضنا بعضاً، ونحن ندعي الفضيلة والاستقامة والطاعة، ونحيل هذا السلوك غير السوي في حياتنا إلى صيامنا وصلاتنا، وطاعتنا وقيامنا، ونحمل ديننا القويم كل ما نقترف من أوزار، ونجترح من آثام في حق أنفسنا.

* ومن الظواهر التي نراها، وقد نعتقد أنها محدثة وجديدة، توبات لمذنبين، وأوبات لموغلين.

أناس أسرفوا على أنفسهم، فتابوا وآبوا، وأناس ولغوا في المعاصي، وأوغلوا في الذنوب فعادوا، فحقهم علينا الفرح بحالهم الجديدة، ومساعدتهم قدر المستطاع حتى يحققوا لأنفسهم التوازن الحياتي المطلوب.. ولكن.

* يشطح الأمر ببعض هؤلاء، من الذين نفرح بتوبتهم، ونحتفي بعودتهم، ونبتهج باستقامتهم، فهو كمن يمن علينا بتبدل حاله، ويحملنا وزر صلاحه، وقد يتكبر علينا باستقامته، ويتعالى علينا بزهده وورعه.

فهذا مذنب، كان في السجن يقضي عقوبة في مسكر، أو في غيره مما يوجب سجنه، فينتهز فرصة حفظ بعض أجزاء من القرآن الكريم، ليخرج بنصف المدة، وهذا حقه، ولكنه ما إن يخرج إلى المحيط الذي جاء منه إلى السجن، حتى يبدأ في السخط والتذمر، وكيل التهم للوطن الذي لم يوظفه، ولم يزوجه، ولم يعره اهتماماً، وكم من واحد بدّل حالاً قديمة، إلى حال تبدو مستقيمة، وفيها ورع وتقوى وصلاح، ولكنه يبطل هذا الفضل، الذي فهمه عنه الناس ولو ظاهراً، بالكبر أحياناً، أو بالتسلط إن تمكن، أو بالسخط والتذمر، وكأن له حقاً على الوطن والمجتمع فوق حقوق الآخرين.

وهذا ومثله، يمسح ب(إستيكة)، حقوق إخوانه من الذين هم على استقامة دائمة، فلم تلوث حياتهم بانحراف من أي نوع كان، فمنهم مئات وآلاف، لم يوظفهم أحد، ولم يزوجهم أحد، ومع هذا كله، لم يصدر منهم تكبر أو تجبر أو تمنن، لأنهم كفوا أذاهم عن غيرهم، فظلوا أتقياء أنقياء أصفياء، حتى وهم جوعى، وربما عراة يتعففون ولا يتكففون.

* رأيت من كتب يتباكى على سجين مذنب، تاب من ذنبه في السجن، فحفظ أجزاء من القرآن، ثم خرج بنصف المدة، فأخذ يتشكى ويتبكى، لأنه وجد نفسه في الشارع دون مأوى أو عمل أو زوجة ودار.. هكذا.. وكأنه أراد من توبته هذه أن توفر له كل شيء، فهو يلوم الدولة والمجتمع، ويمن على الكل بهذه التوبة، ومثل هذا في الحقيقة كثير، ولنا أن نتساءل : هل توبته هذه لله، أم لغير الله، حتى يمن بها بهذا الشكل، وهل أبقى من شيء لأولئك الذين لم يحتاجوا لمثل توبته، لأنهم لم يمروا بما مرَّ هو به من تجربة قاسية في الحياة.

* ذكَّرني هذا وأمثاله، حال بعض من قاده شيطانه إلى معاضدة ومساعدة ومؤازرة الإرهابيين، فلما أصبح في قبضة العدالة أظهر توبته، وأبدى أوبته، تطلَّع إلى ثمن مقابل ما (أبدى وأظهر)، مما يظنه تفضلاً منه على الوطن وأهله في - زعمه - من (عِرض وعَرض وقَرض)، وكأن على أهل الاستقامة - وهم كل الخيرين في الوطن - أن يتشاقوا في حياتهم، لكي ينالوا مثل الذي يطلبه الأشقياء من وراء أفعالهم وأدوارهم الشريرة..؟!

* إنه قمة الشذوذ والانحراف، يوم تصبح التوبة مِنّة، واستقامة الإنسان ذلة. ذلةً لغيره، وكبراً للنفس، وخروجاً على الطبائع السليمة في الإنسان.

* غير بعيد من هذا، حال أولئك الذين ظلوا - وما زال بعضهم على ما كان عليه - يبرر عنف أذناب القاعدة في بلادنا، من الذين يسمون أنفسهم (الجهاديين السلفيين)، يبرر هذا العنف، الذي تمثل في القتل والتفجير والتدمير، بأنه ناتج عن استفزاز الكتَّاب والمثقفين لهؤلاء الشباب..!! يا عيني..! لا تستفزوا الشباب يا شباب، وإلا.. فإنهم سوف يفجرون ويقتلون ويدمرون..! هم إذن يمنُّون علينا بالكف عن التفجير لأنهم (جهاديين)، بشرط أن نسكت عنهم..!

* وفي سنوات خلت، عاد بعض شبابنا من أفغانستان، فصغارهم كانوا في معاهد وجامعات، وكانوا يرفلون بين زملائهم، بثياب وعمائم مغايرة لغيرهم، وشعورهم كانت على أكتافهم، فصنفوا أنفسهم، وصنفوا غيرهم تبعاً لذلك، فدفعوا عن أنفسهم إجراءات كانت تطال غيرهم، منها شكل اللبس، ومنها قص الشعور الطويلة، لأنهم (مجاهدين)، فكانوا أمة وحدهم، يميزون أنفسهم، ولا يخالطون الآخرين. أما الكبار منهم، فعادوا وهم ينتظرون المكافأة. كانوا يمنون على دولتهم وعلى مجتمعهم، وكأنهم هم الأبرار الأخيار، وغيرهم أشرار أحقار.

* مثل هذا وغيره، مشهور غير منكور، ومثله كان في حياة المسلمين منذ مئات السنين.

جاء في كتاب (الهوامل والشوامل)، الذي هو عبارة عن أسئلة من (أبي حيان التوحيدي) سماها (الهوامل)، وأجوبة من (أبي علي مسكويه) سماها (الشوامل)، وكان ذلك في منتهى القرن الرابع الهجري.

قال أبو حيان متسائلاً : لِمَ صار الإنسان إذا صام زائداً عن الفرض المشترَك فيه حقّر غيره، واشتط عليه، وارتفع على مجلسه، ووجد الخنزوانة في نفسه، وطارت النعرة في أنفه، حتى كأنه صاحب الوحي، أو الواثق بالمغفرة، والمنفرد بالجنة، وكان بعض أصحابنا يضحك بنادرة في هذا الفصل قال: أسلم يهودي غداة يوم، فما أمسى حتى ضرب مؤذناً، وشتم آخر، وغضب على آخر.

فقيل له: ما هذا يا رجل ؟ فقال : نحن معشر القراء فينا حدة..!

* قال أبو علي مسكويه مجيباً : كل من استشعر في نفسه فضيلة، وكان هناك نقصان من وجه آخر، وخشي أن تنكتم تلك الفضيلة، أو لا يعرفها غيره منه، عرض له عارض الكِبر؛ لأن معنى الكبر هو هذا. أي أن صاحبه يلتمس من غيره أن يذعن له بتلك الفضيلة، ويعرفها له. فإذا لم يعرفها تحرك ضروب الحركة المضطربة ؛ ولهذا صدق القائل : ما تكبر أحد إلا عن ذلة يجدها في نفسه. وإنما السلامة من هذا العارض أن يلتمس الإنسان الفضيلة لنفسه، لا لشيء آخر أكثر من أن يصير هو بنفسه فاضلاً، لأن يعرف ذلك منه، أو يكرم لأجله.

فإن اتفق له أن يعرف، فشيء موضوع في موضعه، وإن لم يعرف له ذلك لم يلتمسه من غيره، ولم يكترث لجهل غيره به. فقد علمنا أن التماس الكرامة ومحبتها رذيلة. ولأجل محبة الكرامة، تعرض قوم للمتالف، وعرض لقوم الصلف، ولآخرين الهرب من الناس، إلى غير ذلك من المكاره. والذي يجب على العاقل، هو أن يلتمس الفضائل في نفسه، ليصير بها على هيئة كريمة ممدوحة في ذاته، أكرِّم أم لم يكرَّم، وعرف ذلك له أم لم يعرف. ويجعل مثاله في ذلك الصحة؛ فإن الصحة تطلب لذاتها، ويحرص المرء عليها، ليصير صحيحاً حسبُ، لا ليعتقد فيه ذلك، ولا ليكرم عليها. وكذلك إذا جعلت له صحة النفس بحصول الفضائل، لا ينبغي أن يطلب من الناس أن يكرموه لها، ولا أن يعتقدوا فيه ذلك، ومتى خالف هذه الوصية، وقع في ضروب من الجهالات التي أحدها الكبر، والحالة التي وصفت.

* قلت : والحالة إذن، هي.. هي، منذ زمن التوحيدي ومسكويه، إلى يوم الناس هذا.



assahm@maktoob.com
لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5350 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد