أهم قرار يتخذه الإنسان في دول العالم الثالث هو الإقرار بأنه متخلِّف تنموياً. أما حينما يُكابر، أو يغالط، أو يدعي أنه لا يحتاج إلى حضارة الغرب لأن لديه ما يُغنيه عنها، أو أن له (خصوصيةً) تجعله لا يحفل بتجارب الآخرين الحضارية، فإن نقل الإنسان - في هذه الحالة - من التخلف إلى الحضارة، أو بلغة أدق: (تنميته)، مسألة في غاية الصعوبة. فهو هنا كالمريض الذي ينخر فيه المرض وهو يُصر على أنه بخير. علاج مثل هذا الإنسان - حتى وإن شخّصت علته - سيكون صعباً إذا لم يكن متعذرا. ومن أهم مظاهر اختلال المعايير الثقافية أن تعتقد أنك (غير)، وأن لك (خصوصيةً) تسمح لمقاييسك بأن تكون مختلفة عن الناس، وعن تجاربهم؛ وبالتالي فإن ما ينطبقُ على الآخر ليس بالضرورة أن ينطبق عليك.
هذا ما تبادر إلى ذهني وأنا أحاور شاباً (متشدداً) حول حقوق المرأة في مجتمعنا؛ ومن هذه الحقوق حقها في العمل في الأسواق، وحقها في قيادة السيارة. قلت لصاحبي: لماذا نحن (فقط) الذين نمنع المرأة من العمل في الأسواق بحجة حرمة الاختلاط، ونصادر حقها الإنساني في (الحركة) من خلال منعها من قيادة السيارة؛ في حين أن العالم كله - بلا استثناء - يسمح للمرأة بهذا الحق؟. قال: والعالم كله لا يُحكِّم شرع الله - أيضاً - والمملكة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحكِّم الشريعة، فهل نعطل الشريعة ونتبع العالم؟. قلت: معنى كلامك أن تطبيق الشريعة يستدعي بالضرورة أن تقوم الدولة المسلمة التي ترغب في أن تتحول إلى تحكيم شرع الله (بتسريح) كل النساء العاملات في القطاعين الخاص والعام، وتستبدلهن بالرجال؛ فلو قلت - أصلحك الله - بهذا القول، وضمنته خطابك الدعوي، فلن يُسيء أحد إلى تحكيم الشريعة مثل ما تفعل أنت!
وفي الاتجاه نفسه ذكر لي أحدُ المتابعين للشأن الكويتي أن السلطات المرورية هناك كانت تنوي إصدار نظام يقضي بمنع المنقبات من قيادة السيارات لأسباب تتعلق بالسلامة، فأقام متشددو الكويت الدنيا على الحكومة، واعتبروا قراراً كهذا محاولة كيدية (لتقييد حركة) المرأة المسلمة، والتضييق على الملتزمات المنقبات، فاضطرت الحكومة الكويتية إلى صرف النظر عن هذا النظام، في الوقت الذي يعتبر متشددو المملكة أن مجرد السماح للمرأة في السعودية بحق (الحركة) من خلال السماح لها بقيادة السيارة ضرباً من ضروب (الحرام) الذي لا يُجادل فيه - كما يقولون - إلا جاهل؛ أما السبب فلأننا (غير)!
هذان المثالان اللذان تطرقت إليهما في هذه العجالة يشيران إلى الخلل في السياق المنطقي لدى المتشددين، ومدى تناقضهم، وكيلهم بمكيالين؛ وكأن مواصفات الإسلام الصالح هنا، ليست بالضرورة أنها صالحة هناك، حتى وإن كانت (هنا وهناك) تشيران إلى بيئتين متقاربتين إلى حد بعيد كالمملكة والكويت!.. وهذه - بالمناسبة - إفرازات (الخصوصية) التي سوقناها طويلاً كحجة دفاعية، فأنتجت لنا هذا المنطق المعوج؛ فطالما أن لنا خصوصية تجعلنا نختلف عن الآخرين، فلا يجب أن ننظر إلى (تجارب الآخرين) لأننا ببساطة (غير)!