ظهر مصطلح التنوير في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا كتعبير عن الفكر الليبرالي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية.. وقد ساد الفكر التنويري أوروبا في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة المثقفين مثل (فولتير) الذين أخذوا عن الفلاسفة العقليين مثل (ديكارات) و(سبينوزا).. والتنوير في الفكر الأوروبي يعني التحرر من التعاليم الموروثة التي تم القبول بها على أساس سلطة ما.. كما يعني إعادة صياغة الحياة على أساس من النظر العقلي والبحث العلمي.
وبالعودة إلى أصل تعريف التنوير نجد أنه إلقاء الضوء على المبهم من المواضع أو المواضيع وتنوير المعتم منها لأنها ليست على درب المعتاد والسائد المعروف.. فالتنوير لا بد أن يكون مغايراً جديداً حديثاً.. هذه الخصائص تقود إلى تساؤل.. هل يولد التنوير من رحم الأمة نفسها؟.. أم أن الأصل في التنوير هو المغايرة.. بمعنى أن يكون مصدر التنوير خارجياً؟.
الأبحاث تقول إن الحضارات العالمية الرئيسة شكلت امتداداً فكرياً لبعضها.. فكل حضارة بزغ فجرها كانت مستندة على امتدادات وتراكمات فكرية لمجتمعات وحضارات أخرى كملتها وتكاملت معها.. حيث أضاءت لها الطريق وكانت وسيلة لإيقاظ ذلك الانبعاث النائم في نفس المجتمع حتى انتفض وقام وصعد.. ولعل المتتبع للأدبيات التراثية السائدة في كل ثقافات الحضارات الإنسانية يجد من الأقوال ما يثبت الصلة الخارجية للتنوير كقولهم مثلاً (لا كرامة لنبي في قومه).. (ولا مكانة لعالم في وطنه).. إلى غير ذلك.. مما يؤكد الصلة بين الداخل والخارج في حالة التنوير القائمة على التهجير والاستقبال ثم التلقي والشيوع.. وتطور المفاهيم والقيم والتأثير في المحيط والتأثر منه.
والحضارات حينما تتقابل يحدث بينها ما يحدث دائماً بين أي كائنين أو كتلتين يتقابلان.. فهي إما أن تتصادم مع بعضها أو تتعارف على بعضها ثم تتقابس من بعضها.. فكل حضارة معاصرة فيها أثر واضح لمعارف وعلوم وعادات وتقاليد وإبداعات ومفاهيم من الحضارات الأخرى.. وكل الحضارات لديها مشترك إنساني قيمي أخلاقي يكاد يكون واحداً.. وسوف نجد اعترافاً صريحاً بذلك من رجالات التنوير في كل حضارة.. فعلماء الإسلام اقتبسوا من الإغريق والرومان والفرس.. وعلماء التنوير الأوروبي في القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي يقرون باقتباساتهم من الحضارة الإسلامية.. وهو نفس ما سوف نجده من علماء الفرس تجاه الحضارة الهندية.. والهنود تجاه الحضارة الصينية.. وهكذا فحالتي التعارف والتقابس تنشآن حين يخلو الجو من طمع أو غلو أو تطرف.. ويحدث التصادم حينما تنحرف مقاصد الأديان أو يعلو جشع الإنسان أو تستقوي نزعة العدوان أو يضعف الوازع الخلقي.. فينساق الجميع نحو الانفعال ويلجأون للقتال.