Al Jazirah NewsPaper Wednesday  06/02/2008 G Issue 12914
الاربعاء 29 محرم 1429   العدد  12914
لما هو آت
عصاها وقلبي...!
د. خيرية إبراهيم السقاف

العربة تنهب الطريق... بقيت نصف ساعة أخرى لأصل مع صديقتي لزيارة أمها...

تسكن خارج الرياض وقد كانت وجارات أمي مظلة طفولة لم نكد ننشأ بين أيديهن إلا لتبقى بصمات نبراتهن في تلافيف الذاكرة...

كيف لهذا الوقت من العقوق وقد نهبتنا مشاغلنا في ساقيتها لنقصد منأى عن هذه الوجوه الوضيئة...

طيلة الطريق وأنا أسترجع ملامحها...هدوءها و(مَرْوَد) كحلها حين كانت تبادر الصباح برسم جفنيها...

أذكر أن صوت ديكها لم يكن غيره من يوقظنا في الصباح... قبل أن نتشبَّث بأطراف ثوب أبي ليبتاع لنا ديكاً مماثلاً...

حتى بعد أن أصبحت لدينا حجرة زجاجية مكتظة بأنواع الطيور... والأرانب تتاخم السنديان والجوافة والليمون في حديقتنا...

وأقدام الأرانب تغور في جوف تربتها لتخرج إلينا في المساء أعدادا نافرة في أطراف الحديقة الخضراء... نتحلق تحت القمر برفقتها...

كانت هي تودعنا عند الغروب لأن المرأة عندها لا بد أن (تضوي) لبيتها قبل هذا...

اقتربت العربة وقلبي كان يخفق...

ترى هل ستعرفني بعد هذا الزمن...؟ هل ستميزني عن الوجوه الكثيرة التي عبرت بها... واستحلت مكان وجهي... في مراياها...؟ قالت صديقتي: بلى هي لا تنساك لا تزال حتى وقت قريب تستعيدك وأنت تتسلقين الجوافة تطلين على جدارنا...

وأضحك كثيراً إذ كانت كلما رأتني حملت عصاها واقتربت من السور تهددني أن أنزل...

وحين تراني تؤكد أنها تخاف علي السقوط... وتضيع لحظات زياراتنا في جدل الارتقاء والنزول...

وشجرة الجوافة لم تكن غير منطقة بصمات... حتى خيل لي يوما أن سيقان الشجرة هي أذرعنا وسيقاننا...

وصلت مع صديقتي لدارها الأنيق... لا أدري لماذا اعتمر أنفي برائحة بخورها...

كانت تحب خشب (العود الجاوي) كثيراً وتطعمه بشيء من (المستكاة)...وحين أماحكها الحوار بأن خشب (العود) لا يخلط مع (المستكاة) فأمي تستخدم الآخر في تبخير (قُلل) الماء الفخارية... تؤكد لي أن هذه الرائحة أجمل... فأستنشقها بقوة وأطمئن إلى أن خالتي هذه ذات ذائقة فريدة...

دخلت بهدوء إلى خلوتها... كانت ممدة على فراشها لا تقوى الجلوس... سألت دون أن تنظر لنا بهدوء: من؟

وحين انكفأت على رأسها أقبله... ابتسمت... لم تنطق بكلمة... سألت صديقتي بحركة من رأسي: هل عرفتني؟

أشارت لي: لا... حزنت... تحدثت معها قليلاً دعيت لها... أكدت لها أنها بصمة عميقة في نشأتي...

قلت وقلت... لكنها كانت تغط في نوم عميق...

صديقتي قالت : إنها لا تنام بعمق هكذا إلا حين تكون مطمئنة...

بعد نصف ساعة كان الطريق ينتظرنا لنعود...فليس ثمة وقت... المغرب قد اقترب ولابد للمرأة أن (تضوي) بيتها قبل الغروب...كلماتها كانت ترن في أذني... ونهضنا لنغادر...

تحركت من منامها... دست يدها تحت أقرب ركن إلى رأسها... أخرجت عصاها... مدتها إلي وهي تحركها تماما كما كانت تحركها عندما كنت أطل من شجرة الجوافة على جدار بيتها...

قدمت لي العصا...كانت هي هي عصاتها القديمة...

عرفت أنها عرفتني...

صديقتي تمسح دموعي بيدها وهي تقول: عجز إخوتي أن ينال أحدهم هذه العصا...



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5852 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد