انتهى الحكي وبدأ الكلام. عبارة مميزة سأنسبها لنفسي إلى أن يظهر لها صاحب. ما زلت أظن أني سمعتها أيام الحداثة عندما كنا نحب الكلام الغامض الجميل حتى لو كان فارغاً من المعنى. كأنها من انتاج المفكر السوري أدونيس. تميل في بريقها إلى أسلوبه الجميل ومبادراته الفكرية الخلاقة.
جاءت الحداثة في المملكة في زمنها وانحسرت في زمنها أيضاً. كان الكلام ممنوعاً فتحولت الكتابة إلى تنغيم بالعبارات في محاولة يائسة لانتاج الحكم التي تحمل دلالات متعددة حتى اتجهت الأعمال الأدبية في منتصف الثمانينيات إلى أقصى درجات السوء في المعنى والصياغة. صرت أسمي الثمانينيات عصر صفي الدين الحلي. كنا قد استيقظنا مع بداية السبعينيات الميلادية على كتابات عبد الله جفري وعبد الله نور وفهد العرابي الحارثي وسعد الحميدين وعبد الله الماجد وغيرهم.
الرواد الذين أقحمونا عنوة في الشعر الحديث والآداب الجديدة. استوردوا لنا من إخواننا العرب كل ما تحتاجه الصفحات الثقافية لبدء مرحلة جديدة من الأدب في المملكة. طبعاً كما لا يخفى عليكم كانت الكتب العربية التي يتحدث عنها هؤلاء ويروجون لها ممنوعة من التداول. وللحق ساهم الرقيب المتجهم في اكسابها جمالاً أكثر مما تحتويه. أتذكر أول كتاب قرأته في هذا الاتجاه كان بعنوان سقوط الحضارة لكاتب انجليزي مشعوذ يدعى كولن ولسن. وعندما أقول قرأته لا يعني أني فهمته ولكني استفدت منه وتأثرت به. ليس في الأمر أي غموض أو التباس. الكتاب طابعه تجميعي. تجد فيه كل شيء يتصل بالحضارة الغربية والحضارة الشرقية والحضارة الافريقية. يمكن أن أقول أيضاً إنه قائمة بأسماء المفكرين والفنانين والشعراء الغربيين. هو في الواقع امتداد لكتاب آخر لنفس المؤلف بعنوان اللا منتمي. يمكن القول إن كتاب اللامنتمي هو الأب المزود بالأفكار لمئات المقالات السعودية التي نشرت في تلك الفترة. كان الكلام ممنوعا. لا تستطيع أن تكتب عن الحب أو المرأة أو السياسة أو المجتمع أو الدين أو الدوائر الحكومية أو شركة الكهرباء أو اليابان ولا حتى الهواء العليل.
كانت فرصتك في الكلام تتوقف على انتاج الحكم فأصبح اللا منتمي المنجم العظيم الذي يغرف منه كتاب المملكة الحداثيين أفكارهم. في أواخر السبعينيات تقريباً التقيت الكاتبة البريطانية أرس مردوخ وأخبرتها بحال اللا منتمي في جرائد بلادي فبانت نواجذها من الضحك، فعدت إلى المملكة أبشر بما عرفت عن كولن ولسن ولكني اكتشفت بعد فترة وجيزة أني أصيح في (وادي لا صدى يوصل) كما قال طلال مداح حينها. انفلت الأمر حتى من قبضة جيل الرواد المذكور بعضهم أعلاه بدخول جيل جديد شكل حركة ثقافية بكامل عدتها مبنية بالكامل على اللا منتمي مع العلم أن معظمهم لم يقرأ اللا منتمي وبعضهم لم يسمع به أصلاً. تذكرني حركة الحداثة في الثمانينيات ببنطلون الفقير. كلما اهترأ جزء منه وضع مكانه رقعة. في النهاية اختفى قماش البنطلون الأصلي بالكامل وبقيت الرقع. اختفى اللا منتمي وبقيت آثاره. حان الوقت لأكتب مسرحية عن تلك الفترة بعنوان انتهى الحكي وبدأ الكلام.
فاكس 4702164
yara.bakeet@gmail.com