** أن تألف الأشياء... ستكون جزءاً منك.... أن تعتاد عليها تبقى شيء من تكوينك.. من أشياءك.. قد تؤثر فيك.... في سلوكك... في نهجك وأسلوب وطريقة عيشك... فكيف يكون الأمر لشيء لصيق بنا منذ أن استنشقنا أنفاس الحياة وصرخنا صرختنا الأولى ورأينا الدنيا.. إنه الصقيع.... والصقيع لنا.. هنا... في هذا المكان توأم الروح.
** إنه الصقيع... طرق الأبواب.... سكن الأماكن الدافئة.... أصمّ الآذان حين تسللت نسائمه.. وصافح (بجلافة) أوجان الطفولة ولثم أنفاس ما اعتادت إلا الدفء.
** حلّ (جويريد) فأحال الاخضرار إلى عصف.... وحول الحقول الغناء إلى أرض مكفهرّة.... تشكو سطوته.... (جويريد) جاء فأبكى الشجيرات وأسقط أوراقها فأحالها إلى قامات تقف عارية تحت فضاء يلعب به الصقيع كيفما أراد... لا يهاب.... ولا يخشى...
** هابه الناس.. خشوا منه.... تحوطوا له.. لكنه كان أمضى سلاح وأقوى... سكنت الأنفاس والأجساد وسط جدران أربعة.... فرغت الشوارع.. أقفرت الأرض.... والتحفت الطرقات والمباني ما يجمد الحركة.. تقوقع الناس في بيوت لم تكن تملك القدرة على مقاومة ضيف اعتدنا زيارته كل عام لكنه كان هذا العام ضيفاً ذا سطوة.. ثقيلاً... مكشر الأنياب.... مفتول العضلات... لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وفعل بها ما فعل...
** لم تكن شقيقته (المربعانية) أقل منه...
صباح الصقيع.... وللصباح أنفاس تراها على شفاة طفولة غضة.... وارتعاشات تسكن الأطراف وتلاعب الأجساد المثقلة.. والخطى فوق (حليت) هش يذيق الأقدام طعم الصقيع.. ومفاصل أبكاها الزمهرير.
** هنا حيث سكن الصقيع والبرد.... أذاقانا ما لا نريده... وأشربانا ما لا نرغبه.. وألبسانا ما عجزت أجسادنا على حمله...
* فراء أثقلت الأكتاف بلا تدفئة.... وبشتُ أبكت وبره نفحات الثلج.... وهي تصافحها كل حين من فضاء قاسمنا التعب واقتسمه معنا.
* ليل يشكو من طول ساعاته.... وظلام أناخ ركابه هنا.... والمدافئ تنفث أدخنة الدفء ولا دفء.... مواقد امتلأت بالجمر.... ولا تشعرك بالدفء.. وأفواه تنفث البخر... تشعرك بأن الصقيع الكانوني جاثم على أنفاسك...
* (كوانين) أذاقتنا وتذوقنا مع إطلالتها الكثير من العناء..... لم يعد للأشياء طعمها... لم يعد البرد ذلك الذي كنا نفرح بإطلالته.... ولم يكن الثلج وهو يتساقط على تلال بغيّثات ومرتفعات الكتب مغريا لكي يشاهد.... الوافد.
* الأبيض.... رمز النقاء..... رمز الطهر والصفاء.. حين حضنته هامة الكتب وبغيثات.... ألبسها زهوا... صفاء... كانت ترتدي اكليل العرس في ليلة لا عريس لها. لا محفل.... لا حضور ولا موائد.... سوى رائحة الكستناء... (أبو فروة) وأباريق الحليب المطعمة بالزنجبيل...
* شفاة تيبست.. أكف ترتعش.. ليلة أن نصب خيمته.. ألبسنا عوز الدفء وشح المدافئ...إنه برد الشمال وصقيعه.
* برد وصقيع..... وأدخنة تنفثها المواقد.
* طوابير من الناس يسرقها الوقت لتتمّون (الكاز)... والحطب عز على من يريده.... وكهرباء شحت بنفسها ليال وليال ولم تشح بقيم فواتيرها. والشح يكون حين تبحث عما تريد فلا تجده...
* أربعينية العام مضت وتركت وسمها على الأرض.... على الناس والأماكن والوجوه... وسكن في خيمتها من ينوب عنها.
* شتاءنا قد يطول..... والبرد قد يبقى رفيقنا في ليالي سمرنا إلى حين... تشخص أبصارنا كلما أطل مذيع النشرة.... وفصل الخرائط ووضح المنخفضات والمنحدرات.... والجبهات السيبيرية والقبرصية والقطبية.... وكلما قطب حاجبيه انقبضنا.... لأننا نعرف دلالاتها....
* هو الشتاء.... صقيع وبرد ومرض ورياح ومطر.... جبهات لا تنفك عن زيارتنا كلما راق لها أن تزور... لكننا افتقدنا هذا العام زهو الألوان وجمال السماء حين يغازل السحاب انة (مجفل السحاب) قوس قزح....
* مضى جويريد وودعتنا المربعانية... لكن ألفة الصقيع.... تبقى ما بقيت جغرافية المكان.... وهذه الوجوه التي ألفت الصقيع والبرد حين يبني الشتاء خيامه.