ولأن الناس كإبل مئة لا تكاد تجد فيها راحلة، فإن الكُتَّاب كذلك يتهافتون على الكتابة ليُقال، وقد قِيل، وإذا كانت الوطنية كما يقول أحد الكُتَّاب
(أن تعمل ولا تتكلم)، فإنَّ الصحافةَ المُعْتَمِدةَ على الكلام دون العمل آيةُ هذا الزمان - كما يقول شوقي - وخوف صُنَّاع القرارات من اعتماد الكُتَّاب على الأكاذيب والإشاعات، فيما تكون الصحافة سجل المرحلة وتاريخها، والذين يحملون هَمَّ التنقيب والتعقيب ممن وهبهم الله القدرة على التعبير بشرٌ مثل غيرهم يخطئون، والذين يحملون همَّ المسؤولية كذلك. وهذه الاحتمالات تضع كل الأطراف تحت طائلة التقويم، ومن تصوَّر أن قوله الفصل كمن تصوَّر أن فعله صواب لا يحتمل الخطأ، وكم هو الفرق بين الخطأ ابتداءً، والإصرار على الحنث، فالخطأ ابتداءً ناتج طبعي للعمل، والإصرار عليه مؤشر مكابرة وعناد ولا أحسبنا في شأننا نصل إلى هذا الدرك، ولكن الخوف يستبق الاحتياط.
والأجمل في مداخلة الكبار لإرشاد المتوهمين أو لتخفيف مبالغة الجامحين أنها مؤشر التكافؤ والسواسية، فكاتب لا يملك إلا مداد قلمه يقول ما يرى، ولا يخشى إلا الله والخطأ على قوله دليل عملي على أن الحرية المنضبطة مكفولة، وأن الكاتب لا يتوخى الإرضاء ولا يتخول المجاملة على حساب المواقف والقناعات، وأنه يملك حق التعبير عن وجهة نظره، غير أنه مُعرَّض للحساب العسير متى زلَّت به قدمه.
وإذ يكون من سمات المجتمع المدني تكافؤ الفرص بين السلطات الثلاث: الديني والسياسي والاجتماعي، فإن الكاتب الخبير يقدر تلك الحقوق، ويضعها نصب عينيه، وهو يمارس الكتابة في الشأن العام على أن السلطات الثلاث مثلاً نتوقع تجاوز الكاتب قدره وحقه قد لا تحسن ممارسة حقها، ومن ثم تبدو بوادر التسلط والاستبداد وواجب الأطراف كلها ألا تؤتى الحرية ولا السلطة المشروعة من قبلها، إذ ما مِنْ رجلٍ سويٍّ يود أن يكون من أسباب ارتباك مسيرة الأمة، ومتى بدر ما يُعَدُّ إخلالاً في الحرية أو في السلطة، فإنَّ علينا ألا نعدُّ ذلك قصداً مع سبق الإصرار ولا فساداً متأصلاً في الذات إلا إذا أصرَّ المقترف على الحنث. والمرتهن في هذه المجامع لا يفرق بين استغلال الحرية على غير وجهها وحجب شطر منها حين يحكم الأطراف الثلاثة قبضتهم دون وجه. ومتى أُتيحت الفرص للقول والكتابة، وهي مسؤولية مضارعة كان على الكاتب أن يتوقع مَنْ ينبري له ليصده عن بُنيات الطريق، وليس ذلك التدخل إخلالاً في حرية التعبير، وإنما هو أخذ بحجز المندفعين.
وما لا يجوز تجاهله اندلاق أقتاب الفوضى، وإطلاق الكلام على عواهنه، وخوف المستقيم على الطريقة من فضولي لا يفرق بين الهجاء والنقد، وأين مني محقٌّ يقولُ رأياً أريبا أديباً، أو مبطل يحسن التمويه فيكون قوله خدعة أديب؟ وصدمة المتلقي في الحشف وسوء الكيل، فلا هو يصدق ولا هو يحسن الكذب.
وحين لا أكون معنياً بذات الواقعة من حيث هي، فإنني لن أدخل في التفاصيل، وإقحام نفسي مرده لإعجابي بهذه الظواهر السويَّة والأساليب الحضارية، فالكاتب حين يزل قلمه، أو حين يتوقع الرقيب تجاوزه للحد المتاح لا يُستدعى لمخافر الشرطة ولا لأقبية المباحث وإنما يُبادل بالمثل، وتقرع الحجة بحجة مثلها من مسؤول يستطيع أن يحسم الموقف لوجهة نظره بقوة السلطان لا بمداد القلم، وحين يتوفر للكاتب هذا الفضاء من الحرية والأمن والتكافؤ تكون عليه تبعات لا يعقلها إلا العالمون المجربون، واستغلال الإمكانيات المتاحة بحقها تمهد السبيل لمسيرة البناء التي نتوق إليها جميعاً من زلت بهم أقلامهم، ومن ساءتهم الزلة.
فالمدَّاح المداجي المتزلف كالشانئ المزايد سواء بسواء وفضاء الحرية الذي يسبح به الكُتَّاب فرصة لا يجوز التفريط بها، واستغلالها بغير وجه حق وجهٌ من وجوه التفريط بها، وكل من تصنَّع الانفعال، وتعمد الافتعال والإثارة الفارغة، واستغل مثل هذه الإمكانيات المتاحة لبناء أمجاد زائفة يُسهم في تلويث هذا الفضاء، وحفز السلطة على تضييق الخناق، تفادياً للفوضى التي لا يمكن أن تكون خلاقة، وإن ادَّعاها المخفقون في مغامراتهم، وحقٌّ على كل راصد مقتدر ألا يكتفي بالصمت والمراقبة والتواكل؛ إنَّ حرية الصحافة التي ينشدها كل مخلص سوي وكل صادق ونزيه لا يمكن أن تكون فرصة لافتراء الكذب أو المبالغة عند تناول أي ظاهرة، ولا نود أن نجمل الأحكام، ولا أن نحشر كل من خانه التعبير في هذا المهيع، وإنْ كان بعض الكُتَّاب لا يتوخون العدل والصدق، ورهانهم في تضخيم الأخطاء إلى حد يقول معه المتلقي: اللهم سلِّم سلِّم.
ومتى فاء الله على مرحلة من مراحل التاريخ بمقومات الحياة السوية أصبحت التبعات أثقل، فالمحافظة على المنجز لا تقل عن التحرُّف لمنجزٍ أفضل، ومع الاستياء من التعديات في الكلام والتقصير في العمل، فإننا نتوقع مزيداً من الخطأ والتقصير، وإذ لا يخوِّلُنا ذلك إطلاق النقد على عواهنه، فإنَّ الغفلةَ قد تفوِّت فرصاً ثمينةً، ولقد قلت وما زلت أقول: بأن الإقدام والإحجام والتقدير والتوقيت إشكالية المشاهد كلها، وما نُفَوِّته على أنفسنا من خطأ الفعل نفوِّت ما هو أكبر منه في خطأ القول، ولقد ارتاع (هتلر) من المعلومات المفصلة عن قدراته العسكرية عند أعدائه ولما حقق في الأمر تبيَّن أنها تصريحات متلاحقة من رجالاته تم رصدها، ولم تكن جهوداً جاسوسيةً كما كان يتوقع، ولقد نسمع مَنْ يزايد على حقوق الإنسان وحجته ما نتداوله عن حسن نية في صحافتنا، وما حكاية (فتاة القطيف) عنَّا ببعيدة.
والراصد للحراك الصحفي يقف على تجاوزات لا يمكن القبول بها ولا السكوت عليها، وإنْ كانت الصحف الفضائحية شطراً من الإعلام المقروء، ولكنها لا تحل المصاعب التي تواجهها الأمة، وحرية التعبير المنشودة، التي يجب أن تكون مكفولة لا تعني قول ما يخطر على البال، ولا تعني تهييج الرأي العام ولا الخروج على الثوابت والمُسلَّمات، وتمكين الأعداء من وثائق الزيف والافتراء، ولقد أَشرتُ إلى بعض هذه التجاوزات في القول وناشدتُ الكُتَّابَ تجنب الاستفزاز والإثارة في مقالينِ سابقينِ تحت عنوان (لئن لم ينتهِ البراقشيون والصامتون تكن فتنة وفساد كبير) ودعوت من قبل إلى التكتل والتكتم، وما كان هدفي الإغماض على الخطأ ولا ترك الجروح ترم على فساد، ولا تهيئة الأجواء للمقصرين، ولكنني أريد التوازن والوسطية وفهم المرحلة الحرجة حق الفهم ورفع الملفات التي لا تستدعي المرحلة فتحها والتمكن من فقه الواقع والأولويات والتمكين، وما كان لي أن أجامل على حساب المصلحة ولا أن أعطي الدنية في الدين، ولكنني أظل أهدهد الفتنة لتظل نائمة متى لم يكن بالإمكان قتلها في مرقدها.
ومعتصر المختصر أننا على مفترق الطرق والصراع على أشده لانتزاع الأمن بكل أصنافه، والعالم من حولنا يخوض في حمامات من الدم، وبلادنا تضع يدها على إمكانيات العيش الكريم والحياة السوية ومسؤوليتنا ألا نفرط في الزمن المواتى، وكُلُّ مَنْ وجد في نفسه الكفاءة في القول أو الفعل ثم لا يقول ولا يفعل يكون عليه كِفْلٌ مِن المسؤولية، وكُلُّ مَنْ لم يجد في نفسه شيئاً من ذلك ثم يتقحم مشاهد القول ومسارح الفعل يكون إثمه أكبر من نفعه.
والعاقلُ مَنْ عَرِفَ قدر نفسه وحاسبها قبل أن تُحاسب والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وبالنية الحسنة يشارك القاعدون العاملين.