ممارسة النقد في مجتمعنا المحلي هي واحدة من أكثر الرياضات السعودية شهرة وشعبية، بل ربما شهرتها والحماس لها وتشجيعها يفوق كرة القدم المحببة إلى النفوس، والخاصية الأساس في هذه الرياضة أننا جميعاً نوجد على البساط الأخضر ونتقاذف الكرة بكل سهولة ويسر وفي ذات الوقت تجدنا مع الجمهور في المدرجات نشجع ونهتف وقد ترتفع أصواتنا بالضحك والصراخ، كما أن من خصائص هذه الرياضة أنها لا تحتاج منّا لياقةً ولا تدريباً ولا تتطلب وجود مدرب مختص تدفع له الملايين فنحن رضعناها مع حليب أمهاتنا ومن تكرارنا لها ومع الخبرة والمران أصبحت أقل تعقيداً وأيسر سبيلاً، بل صار الكثير منّا محترفاً بامتياز دون أن يقرأ أو حتى يعرف مجرد معرفة ولو عرضية أن هناك مناهج ومدارس متخصصة للنقد، فضلاً عن أن يكون لديه أدنى علم بآلية النقد وطرائقه ومنعطفاته، والغريب أننا نلعب ونتبارى في مباريات ساخنة ومنافسات مشتعلة وفي كل الميادين بلا استثناء ولا وجود لطاقم الحكام الذي يضمن سلامة الجميع وحسن سير المباريات ولا حتى المراقبين والراصدين للنتائج والإصابات، ومن باب الشيء بالشيء يذكر حضرت مساء ذلك اليوم الشمالي البارد مباراة ساخنة حول (حساب إبراء الذمة)، ولأن المباراة لم تكن مثل غالبية المباريات التي تعرفون تفاصيلها وتشاهدونها صباح مساء، ولأن الذين كانوا في الميدان يعرفون جيداً قيمة الكلمة وعواقب الاختلاف ويمارسون النقد على أصوله وحسب مناهجه بعد القراءة الواعية للواقع ومعرفة تضاريسه، ولوجود فريقين متميزين كل منهم ند للآخر قوي الحجة واضح المحجة، لذا فإنني أعرض موجزاً لما قيل من كل فريق دون تحيز أو ميل، وطاقم الحكام أنتم أيها القراء..لقد أبدى البعض - وهم القلة - تحفظه على هذا الحساب إذ يرى في وجوده نشراً للغسيل وإعلاناً للجميع بأن لدينا فساداً إدارياً يتعدى حدود الإهمال في القيام بالواجب الوظيفي إلى سرقة المال العام والأرقام التي سمعنا عنها وطالعتنا بها الصحف أرقام مهولة ومخيفة يجب أن تكون طي الكتمان، لهذا السبب الوارد أعلاه وحتى لا يتشجع الموجودون على رأس العمل في القطاع الحكومي أو الخاص على الاقتداء بهؤلاء، ومتى صحى ضميره وأراد براءة ذمته فالحساب موجود!!، وفي المقابل ترى الأغلبية أن فتح هذا الحساب خطوة رائعة في الاعتراف بالواقع يستحق من طرح فكرته وبارك وأقر ميلاده أسمى آيات الشكر وأبلغ عبارات التقدير، وكان منطلق المؤيدين هؤلاء بأننا لسنا مجتمعاً مثالياً ولا وجود أساسا لهذا المجتمع المرغوب في دنيا الناس وعلى هذه الأرض إلا في عقول الفلاسفة وكتابة المثقفين الغارقين في أحلامهم الوردية، ولا يعرف التاريخ مجتمعا تحققت فيه المثالية المتصورة حتى الآن ولن يوجد في مستقبل هذا العالم البتة، ولكنّ هناك قرباً وبعد من الصورة التي يتطلع لها كل محب للخير، وهذا يعني أن الأمر نسبي وليس مطلقاً، ولذا لا عجب أن تحدث مثل هذه التجاوزات والأخطاء حين يغيب الرقيب الذاتي والاجتماعي ويضعف الوازع الديني وكذا الوطني ومع أن هذا خطأ بل خطأ كبير إلا أن الخطأ الأكبر والجرم الأعظم ألا يستغل المخطئ في حق نفسه ووطنه وأبنائه وبني جلدته هذه الفرصة الذهبية الذي وضعها ولي الأمر حفظه الله ورعاه بين يديه ويراجع نفسه ويعيد ما أخذ، العجب أن يبقى ضمير هذا الإنسان خارج الخدمة حتى الموت وهو يعلم جزما ما سيواجهه بعد أن يفارق هذا الحياة ولا يدري متى تكون النهاية!!، العجب ألاّ يلتفت الواحد منا إلى ذاته فيحاسبها، من أجل أن يربح هو قبل الآخرين!!، ثم أن هذا الأمر ليس خاصاً بنا بل إن بريطانيا حين كانت (الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس) وضعت صندوقاً أسمته (صندوق الضمير) ليضع فيه أفراد الشعب بقايا ما عليهم من الضرائب التي غفل عنها الجباة، ولذا فإننا نعتقد - وهذا القول قول المؤيدين لإشهار الحساب ونشر أخباره في حلقة الحوار الحر والنقد الموجه هذه التي أنقل وقائعها - أن وجود مثل هذه الحسابات والصناديق سلوك حضاري وفهم صحيح لطبيعة الإنسان، ليس هذا فحسب بل أعرب هذا الفريق عن أمله بأن يوجد حساب أو صندوق مماثل لمن يشعرون بوخز الضمير جراء تقاعسهم عن إخراج الزكاة الواجبة شرعاً في مال الله الذي أعطاه الرب سبحانه وتعالى الأغنياء - فضلاً منه ومنة - للثمانية المنصوص عليهم في كتاب الله، ويسبق الإعلان عن ميلاد هذا الصندوق أو فتح الحساب المرتقب حملة توعوية تذكر بهذا الركن العظيم وخطورة التهاون فيه وعقوبة الله التي توعد بها المتغافلون عن القيام بأداء ما في الذمة من زكاة واجبة معلومة للجميع.. بعد ما يزيد على الساعة من كر وفر وحوار حر، رد الفريق المتحفظ بكل بساطة: (بس ولو).. وهذا يعني أنه لم يقتنع بعد، وأنه مازال متترساً بفكرته التي برر لها بما ورد أعلاه، وهكذا نحن دائماً نتحاور ونمارس النقد باعتباره رياضة لا تغير من سلم قناعتنا ولا تبدل مواقفنا إلا عند القلة منّا ولذا يطرح البعض سؤالاً مهماً وخطيراً ترى هل من فائدة تذكر للنقد والحوار أم أنه مجرد (تضييع) للوقت؟