هذه المناظرة - بين الشيخ، وكبير القساوسة الإنجليزي فندر - كانت دينية، في مسألتي النّسخ والتّحريف، حصلت في الهند عام 1270هـ - 1854م، جاء في مقدمة كتاب المناظرة: ولمّا فَشِل الأوروبيون، في الغزو العسكري المسلح، وفشلت كذلك بعثاتهم التنصيرية، المرافقة للبعثات العسكريّة، وعرفوا أنّ قوة المسلمين مستمدة في قوّة دينهم، وصحة عقائده، المستندة إلى الوحي لجأوا إلى أسلوب الاستشراق والتنصير، ففتحوا الجامعات اللآهوتية، المتخصصة في دراسة الإسلام، وعقائده ومصادره وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، لتخريج المستشرقين،
والمنصّرين الممتلئة قلوبهم حقداً، وتعقباً ضد الإسلام والمسلمين.
وقد حرص هؤلاء على إضفاء الطابع العلمي - زوراً وبهتاناً - على أبحاثهم المكتوبة للطعن في كل ما يتعلق بالإسلام، وعقائده ومصادره وتاريخه، حتى ملكوا إعجاب كثير من الأوساط العلمية، في الشرق والغرب.
ويخطئ من يظن أنّ العمل الإستشراقي، لا علاقة له بالعمل التنصيري، فلئن كان الاستشراق هو المصنع الذي يعمل به المستشرقون، لإنتاج الشبه، ضد دين الإسلام، وتشكيك المسلمين في عقائدهم، وتاريخهم وآداب لغاتهم، فإنّ المنصّرين هم الأدوات، التي تبحث عن أسواق فكرية لترويج هذه الشبه والطعون.
لكن المستشرقين عملهم كتابي، وأغلبهم من أحبار اليهود وكهنتهم، وأما المنصّرون فكلهم من قساوسة النصارى، ولا يقتصر عملهم على الكتابة فقط، بل يقومون بفتح المدارس، وإنشاء المستشفيات، والمؤسسات الخيرية، وجمعيات التغذية، وكلّها ظاهرها الرحمة، وباطنها من قبله العذاب، لأنها كلّها منظمات تنصيرية بالدرجة الأولى.
وتجمع بين المستشرقين المنصّرين، مصلحة الهدف في القضاء على الإسلام، كقوّة عسكرّية، وكمنهاج حياة يحكم الناس، وينظم شؤونهم بأحكامه وقوانينه الإلهية الرّبانية الخالصة.
وقد ظهر أثر الاستشراق والتنصير واضحاً، ملموساً بظهور فئة من المسلمين، صدّقَتْ كل ما يفترى حول دين الإسلام، فأساءت الظن بماضيه، واحتقرت حاضره، ويئست من مستقبله، وكان لهذه الفئة دورها في الإعلام الفاسد، والمجلات الخليعة، والأدب المنحلّ، والدعوة لتحلل من القيم الدينية، وتفكيك عُرى الأمة الإسلامية، بإثارة النعرات القومية، التي تطالب بالتخلي عن الإسلام وتاريخه المضيئ، باعتباره حِملا ثقيلاً، وعبئاً كبيراً، لا يناسب التقدم الحضاري المتطور، وتنادي بإبعاد الإسلام عن مسرح الحياة (المناظرة الكبرى 7-8).
وعن جهوده في تأسيس قاعدة علمية بمكة، فقد قدمت سيدة من كلكتّا في عام 1289هـ للحج، وكانت عازمة على إنشاء رباط واستشارته، واسمها (صَوْلت النساء)، وقال لها: إن الأربطة كثيرة، ولكن تكون مدرسة تخدم الإسلام، ويتعلم بها أبناؤهم علوماً شتى، فوافقت واشترت في عام 1291هـ أرضاً بالخندرية، بواسطة الشيخ رحمت الله فشرع في البناء حتى أتمها في عام 1292هـ وسماها باسمها (الصّولتّية) تخليداً لاسمها (دروس من ماضي التعليم بالمسجد الحرام لعمر عبدالجبار ص98).
وقد حاولت القنصلية الإنجليزية بجدة، إغلاق المدرسة للوالي، بحجة أنها تشكل حركة أجنبية، تعمل داخل البلاد، وبذلوا جهودا لإيقافها، فلم يفلحوا لأن الشيخ وضع خطة تضمن استمرارها: بابتعاد الطلاب والمدرسين عن الخلافات المذهبية والسياسية، والعصبيات القومية.. وقد زارها الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في 28-6-1344هـ مع وفد وقال: إن الصّولتية هي الجامع الأزهر في بلادي (المناظرة الكبرى ص40-42).
وقبل المناظرة، تبادل مع القسيس (فندر) الرسائل العديدة حول مكان المناظرة، وموعدها وشروطها، ومن يحضرها، والحكمين فيهان واتفقا على أنْ تكون المناظرة في أربع مسائل، وفي يومين متتاليين في الأمور: النسّخ والتحريف، والتثليث والنبوة.
وقد كان من أسباب المناظرة: جهود الاستعمار والتنصير في الهند، وجهود الشيخ رحمت الله في مقاومة التنصير. ولذكاء الشيخ رحمت الله، وسعة اطلاعه على كتب النصارى، فقد فضحهم في كتابه إظهار الحق، وردّ على شبهاتهم وأقاويلهم، فقد عرى (فندر) وكتاباته، حيث استطاع في هذه المناظرة، إظهار فندر على حقيقته، وتعرية كتاباته، التي مُلئتْ تبجحاً وتحدّياً، والحط من قدره، وقدْر كتبه ويظهر ذلك مما يلي:
1 - إظهار تناقض فندر في مواضع عديدة من كتبه، وأنّه كان يكتب بغير علم، كما كان يتكلم أثناء المناظرة، بغير وعي ولا علم.. فقد عقد فصلوا طويلة، في ميزان الحق لبيان عدم نسخ كتب العهدين جميعها، ثم اعترف بنسخ التوراة، وكرر القول مراراً، بأن الكلام في الإنجيل لا في التوراة.
ولا شك أن هذه القدرة، على إظهار تناقض الخصم، بالمقارنة بين ما يقوله وما يكتبه ليس أمراً ميسوراً، إلا لمن يسره الله له، فوعى كلّ ما كتبه خصمه، وقد بلغ الشيخ هذا الوعي والعلم، واكتفى بهذا المثال: عندما احتج فندر على منع النسخ، بأنّ الله يكون مثل السلطان الإنساني، ضعيف العقل، لأن النسخ بزعمهم يعني: أنّ الله أعطى الكتب السابقة، ولم يحصل مرامه منها، فأعطى القرآن الذي به حصل مرامه، لأن ما قبله، كان ناقصاً والله لا يعطي شيئاً ناقصاً.
فردّ عليه الشيخ بأن هذا الفهم لا يلزم على المسلمين، نظراً إلى معنى النسخ المصطلح عندهم وإنما يلزم على فندر وزمرته، فهو الذي نقل في ميزان الحق، قول بولس في الرسالة العبرانية، وأيده في اعتباره الوصايا السابقة (أي التوراة) ضعيفة وناقصة، وعديمة النفع، لأنها هرمت وشاخت، فأيّ تناقض أبلغ من هذا؟.
2 - إلزامه فندر أن يتراجع عن كتاباته التي كتبها، وعن أقوال قالها، وأن يعترف بغلطه فيها في مواضع عديدة، وهذا حصل عدة مرات في المناظرة: منها عندما بيّن له الشيخ: بأنّ النصارى نسخوا جميع أحكام التوراة ومحرّماتها إلا أربعة، نسخوا حرمة ثلاثة منها، مستشهداً بنصوص عندهم.
وأورد الشيخ، شيئاً من تناقض كتبهم، حيث بان التناقض ظاهراً من كلامه بالحرمة، ثم بأن علماءهم يفتون بالحلّ وقد اعترف فندر، بوقوع أربعين ألف اختلاف، ثم تراجع إلى ثلاثين ألفا.
وعندما سأله الشيخ عن (كيس برسبتر) الروم، قال: هو معتبر عندنا، فلما استشهد بأقواله الملزمة الواضحة تبرأ منه فندر في نفس اللحظة، وصار عنده غير معتبر. (وهذا شبيه بما حصل في قصة إسلام عبدالله بن سلام رضي الله عنه) وأظهر الشيخ اضطراب فندر في كثير من أجوبته وكلامه، وكان هذا يرهق أعصاب فندر ويحرجه، ويجعله متحيراً، بإلمام الشيخ، فعندما استشهد فندر، على عدم النسخ في الإنجيل، بقول: بطرس بكلمة الله الحية، الباقية إلى الأبد، أتى له الشيخ فوراً بآيات من كلام أشِعْيا فيها، وكلمة ربنا تدوم إلى الأبد، ومع ذلك وقع النسخ في التوراة، باعتراف فندر، فأولى به أن يعترف بالنسخ في الإنجيل، مع وجود هذه الآية فيه بالإضافة إلى أن هذه الجملة، ليست عامة، لتدلّ على منع النسخ.
فلما سمع ذلك فندر، تبرأ من قول بطرس، وقال: نقلت قول بطرس على طريق السند..
وهكذا لو سرنا معه في هذه المناظرة، التي كشف فيها تناقضات فندر، حتى أفحمه وهرب من بقية المناظرة، لبان لنا الكثير من هزائم هذا القسيس، الذي غضبت منه حكومته وطردته لأنه انهزم شرّ هزيمة، فرحم الله الشيخ على جهوده وعلمه (المناظرة ص356).
أبو يوسف والرشيد:
جاء في وفيات الأعيان، لابن خلكان: أن جدّ التنوخي قال: كان سبب اتصال أبي يوسف بالرشيد، أنه كان قدم إلى بغداد، بعد موت أبي حنيفة، رحمه الله، فحنث بعض القواد في يمين، فطلب فقيها يستفتيه، فجيء بأبي يوسف، فأفتاه أنه لم يحنث، فوهب له دنانير، وأخذ له داراً بالقرب منه.
ودخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً، فسأله عن سبب غمّه، فقال: شيء من أمور الدين، قد حزنني فأطلب فقيها كي استفتيه، فجاءه بأبي يوسف.
قال أبو يوسف: فلما دخلت إلى ممر بين الدور، رأيت فتى حسناً، عليه اثر الملك، وهو في حجرة محبوس، فأومأ إليّ بأصبعه مستغيثاً، فلم أفهم منه إرادته، وأدخلت على الرشيد.
فلما مثلت بين يديه، سلمت ووقفت، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: يعقوب أصلح الله أمير المؤمنين، قال: ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني هل يحدّه؟ قلت: لا.
فحين قلتها سجد الرشيد، فوقع لي أنه قدر رأى بعض أهله على ذلك، وأنّ الذي أشار إليّ بالاستغاثة هو الزاني.. ثم قال الرشيد: من أيْنَ قلت هذا؟ قلت: لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ادروا الحدود بالشبهات).
وهذه شبهة يسقط الحدّ معها، قال: وأيّ شبهة مع المعاينة؟ قلت: ليس توجب المعاينة، لذلك أكثر مما مِنْ العلم بما جرى، والحدود لا تكون بالعلم، وليس لأحدٍ أخذ حقه بعلمه، فسجد مرّة أخرى، وأمر لي بمال جزيل، وأنْ ألزم الدّار.
فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى، وهدية أمه وجماعته، وصار ذلك أصلا للنعمة، ولزمتُ الدّار، فكان هذا الخادم يستفتيني، وهذا يشاورني، ولم يزل حالي يقوى عند الرشيد، حتى قلدني القضاء.
وقال طلحة بن جعفر: أبو يوسف مشهور الأمر، ظاهر الفضل، وهو صاحب أبي حنيفة، وأفقه أهل عصره، ولم يتقدمه أحد في زمانه، وكان النهاية في العلم والحكم، والرياسة والقدر، وأول من وضع الكتب في أصول الفقه، على مذهب أبي حنيفة، وأملى المسائل ونشرها، وبثّ علم أبي حنيفة، في أقطار الأرض (وفيات الأعيان 6 :381 - 382).