اعتدت ارتياد مجلس كريم مع زملاء كرام، وكان من الرواد رجل فاضل دمث الأخلاق لين المعشر، وكان قد أدخل في هاتفه المحمول نغمة لم أسمعها من قبل، وكان صاحبنا كلما سمع النغمة قام واقفاً ومصغياً بجميع جوارحه، حانياً رأسه إلى الأسفل، ثم يهرول سريعاً، خارج المجلس كأنما لدغته عقرب، أو أصابه مكروه، ولا يلبث أن يعود بعد قليل إما مبتهجاً منشرح الأسارير، أو متكدراً كأنما حلت به فاقرة. وكانت النغمة المدخلة في محموله تقول بصوت نسائي: (أووم أوأف وأنت بتكلمني) (قم واقفاً عندما تكلمني). فقلت له بإلحاح: أستحلفك بالذي خلقك وخلقني إلا أبلغتني بمن أدخل لك هذه النغمة التي ترتجف جوارحك عند سماعها، وتزداد بهجة أو كدراً من أجلها، وتقف وقوف تعظيم، وتهرول هرولة كليم. فقال: أما وقد حلفتني فإن من أدخل النغمة التي سمعتها زوجتي الفاضلة، أبقاها الله لي، ولا حرمني من طاعتها. فضحكت ضحكة تجاوزت المألوف، واستلقيت على قفاي وأنا على الكرسي حتى كدت أن أسقط منه، وضحك من حولي، وقلت له: بارك الله لك فيها، وأدامك على طاعتها، وأسعدك بما أنت فيه من تنفيذ أوامرها، ولكن حذار أن تكون ليناً فتعصر أو يابساً فتكسر. فإن الله قد أحب من كل شيء أوسطه، وليكن ما بينك وبينها مثل شعرة معاوية، إن جذبتها فأرخها، وإن أرختها فاجذبها. وتذكر قول ابن زيدون في ولادة بنت المستكفى حيث يقول: |
أنا راضٍ بالذي يرضى به لي |
من لو قال: (مُت) ما قلتُ: (لا) |
مثلٌ في كلِّ حسنٍ مثلما |
كان ذلي في هواه مثلا |
إنْ يكن لي أملٌ غير الرضا |
منك، لا بلغتُ ذاك الأملَ |
وقلت في نفسي لعل صاحبنا، قد ارتوى بأنفاس الأندلس، واستهواه ما قال ابن زيدون ظناً منه أنَّ الشعراء يفعلون ما يقولون. وانتهى مجلسنا يومنا ذاك، فإذا به يأتي في اليوم الذي يليه، وقد تغيرت نغمة هاتفه المحمول إلى نغمة أخرى مغايرة بصوت طفل يقول: (ردوا يا هو) (يا ناس عندكم مكالمة ردوا) أي (أيها الإنسان رد فلديك مكالمة). واستمر في الإنصات والهرولة كحالة الأولى، فكانت قهقهاتنا أعلى، وضحكاتنا أعمق، وعلمنا دون سؤال أنّ من استبدل الأولى بالثانية، هو من وضع الأولى، وأنه ما زال مصراً على وجوب امتثال صاحبنا لأوامرها. |
بعدما رأى صاحبنا ما رأى، وسمع ما سمع، استبدل نغمات هاتفه بشيء من الموسيقى، ويظهر أن هذا التغيير قد تم بعد رجاء واستجداء عطف، واسترضاء تجاوز الوصف. فكان ما كان. |
ما أكثر المطيعين لزوجاتهم والممتثلين لأوامرهنَّ امتثال صاحبنا، لكن حال دون افتضاح أمرهم عدم وقوع نغمة كهذه في أيدي زوجاتهم. |
وأحسب أن كثيراً ممن كان في المكان ضاحكاً وهو يسمع النغمة، ونفسه تحدثه بأنه نفذ أكثر مما نفذه صاحبنا، لكن الطرائق مختلفة، والوجوه متباينة. ورسول الهدى صلى اله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله). |
وعلة صاحبنا أنه وقع عند كاتب يداعب قراءه بما يقع له ولصحبه، تسلية من مهموم، وتخفيفاً عن مغموم، ومداعبة أخوة كالنجوم. ولم لا فللغربة دواء به يستشفي من كل داء، مؤانسة الأصحاب والتزود من الآداب، والابتعاد عما يراب. |
وكلنا ممن لم تكن زوجته بجانبه يردد قول ابن زيدون في قصيدته المشهورة: |
أضحى التناني بديلاً عن تدانينا |
وناب عن طيب لقيانا تجافينا |
ألا وقد حان صُبح البين صُبحنا |
حينٌ فقام بنا للحين ناعينا |
كنا نرى البأسَ تسلينا عوارضُه |
وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا |
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا |
شوقا إليكم ولا جفت مآقينا |
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا |
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
|