درست ظاهرة التقدم والتأخر منذ الأزل، ولم يزل الفلاسفة والمفكرون منشغلين بتحليل أسبابها، ولا يستطيع المتابع أن يضع نقطة في آخر السطر؛ فلا معنى لاختزال الفهم والحكم في سلة واحدة، أيا كان صاحبها موقعاً أو موقفاً..!
(1)
** أسوأُ الأسئلة تلك التي تنتظرُ أجوبة، والعقل المنطلق لا يقبل دلالات المعادلات الرياضية التي تنتهي بما بعد علامة الناتج معلنةً الحكم النهائي المشفوع بعبارة: (وهو المطلوب إثباته).
** وتَفرُّ من شفاهنا ابتساماتٌ غير عابرة حين ننصتُ -غير خاشعين- لتقريرات الكتبة والحفظة مِمّن يرون إمكان حل جميع المعضلات الحضارية بخطابيّة لا تستطيعْ الارتقاء إلى عالم التفاعل فضلاً عن دخولها دائرة الفعل.
** ومنذ زمنٍ بعيد لم يستطعْ استفهام (شكيب أرسلان 1869-1946م) في كتابه الذائع: (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرُهم) (صدر عام 1939م) أن يجد إجابة شافية؛ وسيظل معلقاً كما الكون، خاضعاً لعوامل ومتغيرات لا تتصلُ بالجنس أو اللغةِ أو الدينِ، ومن يظن قدرتَه على ادعاء الفهم فليراجع نفسه إذ ربما هو غارقٌ في الوهم..!
** ابتدأ أرسلان بإجابة السيد (محمد بسيوني عمران) الذي استفهم عن تردي أحوال الأمة وبروز سواها رغم وعد الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، وأشار إلى عوامل داخلية وخارجيّة منها: الجهل البسيط والجهل المركب (العلم الناقص) واليأس والغزو والخيانة والفساد والخوف وفقدان الثقة وضياع الدين بين الجامدين والجاحدين، في حين تحافظ شعوب الفرنجة على قومياتها ودياناتها، وتحيي (يهود) اللغة العبرية، ويهتمُ اليابانيون بانتمائهم العقَدي ...الخ.
** وقد ثار الشيخ محمد عبده -رحمه الله 1849- 1905م على السياسي الفرنسي (غابربيل هانوتو) 1853-1944م حين زعم أن الدين الإسلامي أنتج التقهقر والانحطاط اتكاءً على عقيدتي: (التوحيد) التي تلغي دور الإنسان في الحياة وترد كل شيء إلى الله، و(الإيمان بالقدر) الذي يشلُّ إرادة الإنسان فيتساوى وجودُه والعدم (جمعت الحوارات في كتاب (طاهر الطناحي): حقائق الإسلام وأباطيل خصومه).
** هكذا تجيئُ الإجابةُ (الجاهزة) غير قادرةٍ على مواجهة الحقيقة التي تعرف أن (التوحيد) أعلى مكانة الإنسان حين وصله بالله مباشرة دون وليّ أو وسيط، مثلما توازن في ذاته فأدرك أن وراء الحياة مالا تدركه الأبصار، ولا تفسره الأفهام، وتعساً لعقل ظن امتلاك مفاتيح القدرة والإلهام.
(2)
** تؤدي الإجابة الجاهزة إلى بقاء السؤال يُراوح مكانه، ومثلما تجنّى (هانوتو) أنصف سواه، وكما سارع في الحكم يتسرعُ آخرون يرون شروط النهضة متحققةً في مجموعة جمل مختزنة يردّدها الناس؛ فيتعلمها الطفل، وينقاد لها الناشئ، ويرتضيها الكبير دون أن تُتاح لأي منهم فرصة اختبار النظرية التي نتعلمُ الوقوف أمامها بحياديّة تامة قابلة للتصديق أو الرد.
** أما الاستفهام الآخر عن تقدم غير المسلمين ؛ فإن من يعزوه إلى الالتزام بالدين المسيحي يُدرك أنه جانب الحقيقة، مثلما ندرك أن شروط التقدم لا تدينُ لعاطفةٍ إيمانيّة معزولة عن قيم العلم والعمل؛ (فالسماءُ لا تمطر ذهباً ولا فضة).
** النهضةُ لا تجيئُ ومنظرّوها غارقون في اختلافات حول فهم الدين وتفسير نصوصه وامتلاك الحقيقة بين أتباعه، و(الطائفيُّون) قادرون على إماتة المعاني السامية للدين في نفوس أبناءِ مذاهبه.
** ومن المفارقات أن العالم الذي حقق شروط النهضة المدنيّة قد استوعب أهمية العلوم التطبيقية فكانت مبتدأ خطواته، مثلما استوعبها المسلمون قبلهم، وقد نقل الإمام محمد عبده عن كاتب غربي أن النصرانيّة لم تأت بفلكي واحد طيلة ستة عشر قرناً بينما بحث المسلمون في علم الفلك وغيره بعد وفاة نبيهم بعدة سنوات.
** تخلينا عن المبادرة التي تمثلناها زمناً، ونأينا بالجيل الجديد عن علوم العصر إلا ما هو ضمن المقرر الدراسي الفقير الممتلئ بمواد مكررة، وحين نستقطب منبريين فإننا لا نعتني بالمفكرين والتقنيين، ويكفينا مجتهدون يُملون على الناشئة توجيهات مباشرةً أثبت الواقع نأيها عن السلوك المعاش، وتؤكد شروط النهضة أنها ليست منها في شيء.
(3)
** يُعلي الإسلامُ قيمة العقل فيقدمُه عدد من العلماء على ظاهر النص الشرعي إذا وُجد التعارض، مثلما يؤكد الدين الحنيف على استمرار السنن الكونيّة وجعلها مدار التفكر والتدبر، ولو لم يكن الأمر بهذه الصورة، لم يبق المسلمون في أسفل القاع حيث لا مكان تحته، ولو لم يكن لما اغتصبت الأرض وانتهك العرض وتداعتْ علينا الأمم .
** درست ظاهرة التقدم والتأخر منذ الأزل، ولم يزل الفلاسفة والمفكرون منشغلين بتحليل أسبابها، ولا يستطيع المتابع أن يضع نقطةً في آخر السطر؛ فلا معنى لاختزال الفهم والحكم في سلةٍ واحدة، أيا يكن صاحبُها موقعاً أو موقفاً .
(4)
** وضع عبد الله النديم 1845-1897م للتقدم مجموعة شروط استقاها من تجربة النهضة الأوربيّة، وأبرزها: وحدة اللغة، والسلطة، والدين، والسياسة، والحرية الفكرية، والاستثمار المالي في الصناعة والتجارة، وتشجيع العلم والاختراع، ومكافحة الأمية ونشر التعليم.
** وفي مقابلها حدد عوامل التأخر بما يضادها؛ فاختلاف اللغة كان عاملاً في ثورة الممالك التي فتحها المسلمون، مثلما تسليم الحكم لأهلها، وإبقائهم على دياناتهم، والفرقة بين الحكّام، وكذا الوصاية على العقل، وتبذير المال على الملذات، وعدم العناية بالعلم والتعليم.
** سنختلف معه في بعضها وسنتفق في بعضها، لنرى غيره وقد زاد أو انتقص مع اتفاق الجميع على عاملين مهمين هما: العلم -بمعانيه التطبيقية التقنية-، والحرية الفكرية بمفاهيمها الواعية.
** ولمن شاء استزادة في هذا الباب فإن من أفضل الكتب التي طرقته كتاب (أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث) للدكتور فهمي جدعان، وقد صدرت طبعته الأولى قبل ثلاثين عاماً (1979م)
(5)
** الأسئلة الثقافية لا يمكن إخضاعها للجاهزية والتعليب، كما أنها لا تقبل المنع والتعمية، وما يمارسُه بعضُنا من محاولةِ القطع بأحكامٍ أو تحريم حوار داءٌ ارتكس بنا إلى الوهم وأدى إلى الوهن.
** تجاوزْنا -أو نكاد- (أميّة الحرف) لكننا بعيدون عن تخطي أمية الفكر، والعقلُ المكبّل بقيود العادات والتوجيهات والمراسم لا يستطيعُ الانطلاق في فضاءِ التطوير، والإسلام ليس عبادةً فقط أو استعداداً للموت وحده ؛ بل هو دينُ عمل وحياة؛ وقد فهم ذلك من قادوا العالم، وتجاهله من قادهم.
** نعلم أن آيات العبادات هي الأقل، وقرأنا سوراً كاملة تحتوي على قصص الأنبياء والأمم لنتعلم منها معاني العدل والاستقامة والوفاء والعطاء والإخلاص والأمانة والصدق والإحسان والدعوة بالحكمة والرأفة بالفقير والضعيف والجهر بكلمة الحق وعدم أكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قيم السموّ التي سادتْ فساد أربابُها.
** الطريقُ طويلة، وفي أولها حواجز تقف بين أبناء البلد الواحد بل المذهب الواحد الذي يحاول بعضُ دعاتِه تشظية الناس وفق رؤىً اجتهاديّة في قضايا جزئية.
** درب النهضة سيكونُ سالكاً إذا أتيح السؤال، ولم يَقمْعَ الجواب، ولم يُزايد أحد على أحد، وحين يغدو للعلم التقني مكانه، وللمفكرين مكانتُهم، فنراهم حاضرين ومحاضرين، ولا يبقى في الأفق الثقافي مَصارعُ حصار بل مسارح حوار..!
* السؤال منطق والإجابة نطاق..!
E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com