التاريخ كذاكرة للأمم، وكمرآة للشعوب، يتعذر على أي أمة من الأمم أن تعيش بدونه، فالأمم التي لا تاريخ لها، لا وجود لها، إذ به قوام الأمم تحيا بوجوده، وتفنى بعدمه؛ وعي التاريخ، شأن تفرضه مقتضيات الاستخلاف، وتمليه متطلبات تكرار تجربتنا الحضارية الفاعلة، قراءة التاريخ جزء من المؤهلات للمشاركة في صناعته، وصياغة تضاريس جغرافيته، إنها منبع لطاقة هائلة تحفز إلى صياغة تاريخ أكثر تقدماً، لكن - وهذا شرط قرائي استراتيجي - لابد أن تكون قراءة شمولية، تتعاطى مع الماضي بعطاءاته وانكساراته، ومن ثم حصر معطياته العامة، وخطوطه العريضة، فهي ليست قراءة ابتسارية، تسلط الأضواء على حادثة دون غيرها - إلا لباعث يستدعي ذلك - وهي أيضاً لا تقتطع الوقائع من ظروفها ومساقاتها، بل كل مرحلة يجري التعاطي القرائي معها بشكل كلي وعلى الصعد كافة، السياسية والاقتصادية والثقافية والعقلية حتى تتكامل أجزاء الصورة لدى الذات القارئة؛ التماس القرائي المعمق مع الماضي التاريخي ليس ترفاً عقلياً يختزل في جملة من الحكايات المستدعاة لتزجية الوقت إبان السمر الليلي فحسب، بقدر ما هو عامل محرض يدفع إلى الأمام على نحو يحيل الشرائح المتباينة المشكلة للمجتمع إلى عناصر إيجابية تنهض بدورها الفعال في بناء الأمة والنهوض بها من عثراتها؛ الغوص في أعماق التاريخ الغابر، وتحسس مفاصله الحيوية، ليس شأناً يستحضر أثناء صياغة الخطب الثورية - المعتمدة لمجرد التباهي بما حققه الأسلاف من إنجازات مشرقة نعجز عن حملها في الذاكرة، فضلاً عن أن نحاكيها أو ننسج على منوالها - فحسب وإنما هو شرط تفرضه سياقات التقدم بوصفه هو من يؤسس لآفاق عملية تجسد النهوض في أعلى صوره المتاحة. إن إعادة قراءة التاريخ بهدف بلورة نمط مغاير للنمط الذي نعيشه الآن، وتوليد قوالب حياتية نتمكن عبرها من الحضور الفعلي المؤثر في مسار التاريخ شأن تمليه علينا اشتراطات التاريخ، وذلك إذا ما أردنا لذواتنا أن تكون من أكبر المساهمين في رسم الإضاءات التاريخية وتشكيل معالمها. قراءة التاريخ لا بغرض الاستفادة منه، وإنما بقصد مخاصمته، والتعامل بسجالية مقيتة مع ماضيه، والتعاطي معه لا كماض ملهم، وإنما كتراث بالٍ!، أو قراءة التاريخ والتعاطي معه كنص أخاذ، أو كقصة ذات ملامح جمالية تثير لدينا شعوراً وهمياً بالتفوق!، هو أحد البواعث الدافعة بنا إلى هامش التاريخ. القراءة الواعية للتاريخ، تنطوي على محددات منهجية، تتمحور حولها، فهي بطبيعتها تفرض التمييز بين النصوص المقدسة بذاتها والتي لا يماري فيها لبيبان، وهي الآي القرآني والنص الحديثي الصحيح في ثبوته، الصريح في دلالته، وبين النصوص والسلوكيات الصادرة من شخصيات أخرى لها قيمتها التاريخية، إلا أنها غير عصية على النقد كنتيجة حتمية لعدم معصوميتها.
القراءة المثمرة للتاريخ تقف على الأبعاد الحياتية الوضاءة في تاريخنا فتقتفي أثرها.
تترجمها في حاضرها، وتصنع من خلالها لاحقها المنظور.
القراءة الواعية للتاريخ التي تستقطب منه منهاجاً للحركة، هي بطبيعتها متدبرة تقف أمام أحداث التاريخ سابرة لأغوار الزمان، متمعنة في مكوناته الجوهرية، فهي ليست سرداً تاريخياً لأحداث مّا، بقدر ما هي تنقيب أركيولوجي يتغيا الاهتداء إلى مدلولات هذه الأحداث والوقائع لتحليلها وتفسيرها، ووعي عناصر الاتصال العلائقي براهننا المعاصر، ومعاينة الروابط المتجلية والمضمرة التي توحد بين شتاتها وتحيلها إلى وحدات متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمان امتداد الكائنات الحية في الزمان و(ابن خلدون) يؤكد أن التاريخ (في باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق) إن تدبر الحراك التاريخي، ووعي كيفية نشوء الحضارات، وآلية تعايشها، وبواعث انهيارها، لا يجري إلا عبر قراءة موضوعية، يجري على ضوئها تتبع القوانين الربانية الحاكمة لهذا الكون والمحركة لآلياته. القراءة الواعية للتاريخ لا بد أن تكون قراءة تمحيصية تعمل على تنقية التاريخ من تلك الشوائب التي علقت به، وامتزجت به قسراً حتى اختلطت الأساطير الخرافية بالحقائق الواقعية، فشوهت معالمها، كما نلحظ في جملة كبيرة من قراءات غربية وصهيونية، جرى تغليفها بغلاف برّاق لتبدو موضوعية، وذات مصداقية عالية لتوقع في فخ شركها مختلف العقليات التسليمية، التي لا تؤمن بالشك في منحاه المنهجي!!.
Abdalla_2015@hotmail. Com