في الوقت الذي يركز فيه السواد الأعظم من المتداولين على أسعار الشركات، يرى (وارن بافيت) أن التركيز يجب أن يكون على قيمة الشركة وليس على سعرها الحالي، قيمة الشركة، إنه الشفرة السرية التي تمكن بها هذا المستثمر العبقري من أن يكون المستثمر الأول على مر التاريخ.
عندما تقرأ عن تجربة (وارن بافيت) لا شك أنك سوف تصدم ببساطة هذا الرجل وسطحيته التي قد يفسرها في التفكير، ولكنك ستصاب بالذهول أيضاً من قوة الصبر التي يتحلى بها، فكان لامتزاج البساطة بالصبر نتائج مذهلة، جعلتهما من أبرز رموز فك الشفرة التي تبدو ظاهرة التعقيد والتي يتمنى كل مستثمر لو استطاع الوصول إليها، مع العلم أن سطحيته الظاهرة ناتجه عن عبقرية معقدة جداً.
كيف تستثمر في قيمة الشركة بنفس الطريقة التي كان يمارسها (وارن بافيت):
لا يولي (وارن بافيت) أي اهتمام لتقلبات السوق اليومية، ولن يستطيع الإجابة على سؤالك لو سألته: كم هو سعر شركتك اليوم، ناهيك عن معرفته بأسعار الشركات الأخرى.
يرى بأن المتابعة اليومية لأسعار الشركات وكميات التداول تؤدي إلى الجنون ولا تؤدي إلى النجاح وتحقيق الأرباح الحقيقية، كما أن المتابعة المستمرة لأسعار الشركات، تؤدي حتما إلى التقلبات المزاجية الحادة، فعندما يرتفع سعر الشركة التي أخذت بها، سيدفعك هذا إلى الغرور والفرح الشديد، وعندما ينخفض السعر سيؤدي بك إلى الإحباط والحزن وتراكم الهموم، مما يجعل لهذه التقلبات المزاجية الحادة تأثيرا كبيرا على قراراتك، والتي لن تكون صائبة بطبيعة الحال، وبالمقابل فإنه لا يمتاز بالنشاط والحركة المستمرة في سوق المال أو أثناء التداول، بل يمتاز بالسكون والهدوء بشكل أكبر، وتستطيع بسهولة أن تحصي جميع القرارات الاستثمارية من بيع وشراء التي قام بها طوال حياته، وليس خلال عام أو عامين فقط، في حين أن كثيرا من المستثمرين لا تستطيع أن تحصي أعمالهم وقراراتهم التي مارسوها خلال أسبوع واحد فقط، (السلوك الذكي) في تصور (وارن بافيت) هو (السكون)
يجب أن تكون ساكناً، وأن تفكر في تحقيق الأرباح وأنت على فراشك تتمتع بقسط لا بأس به من الراحة، أكثر من تفكيرك في الربح وأنت في صالة التداول!!!
إن وارن بافيت يبذل جهدا مضاعفا قبل اتخاذه أي قرار شراء، ولا يتم له ذلك إلا بعد دراسة متفحصة للشركة التي يريد الشراء بها، وبعد اتخاذه لقرار الشراء، يخلد لسكون طويل، ولا يبالي بتاتا بجميع تقلبات السوق، بل حتى الأحداث الكبيرة التي تحيط بالسوق والتي توليها نشرات الأخبار والصحف والمحللون جلّ اهتمامهم يعدها من الأمور التافهة التي لا تستحق الاهتمام، بعد أن يكون مقتنعا بصورة كبيرة بأنه قام بالقرار الصحيح بشراء أسهم تلك الشركة التي تعد في نظره ذات قيمة جيدة تستحق الشراء.
وبالمقابل فإنه يحذر من (النشاط المفرط) أو (السلوك الغبي) فإن كنت تستطيع تحقيق الأرباح وأنت على فراشك وتخلد للنوم، فلماذا تبذل مجهودات مضاعفة لجني أرباحك، وبالفعل فأنت إن كنت مستثمراً في شركة قوية تعمل على مدار الساعة لتحقيق الربح، فهي ترفع من قيمة استثماراتك لديها حتى وأنت نائم على فراشك.
وإذا أردنا أن نلقي نظرة على السكون الذي يتحلى به (وارن بافيت) سنجد أنه حسب دراسة تمت عام 2004 فإن آخر عملية قام بها في أسهمه في شركة كوكا كولا كانت في عام 1994، وفي شركة (جليت) كانت في عام 1989، وفي شركة (بريد واشنطن) كانت في عام 1973م.
إن هذا السلوك الغريب، والذي قد لا يستوعبه الكثيرون، جعل من هذا الرجل هو المستثمر الأول على مر التاريخ، واستطاع أن يحقق من شيء لا يذكر ثروة تقدر بـ 40 مليار دولار، فعلا انها ظاهرة تستحق الدراسة، وتستحق الاحترام، وتستحق الاهتمام أيضا، ويجب علينا أن نفكر كثيراً في طريقته، ولو بأسلوبنا الخاص، ويجب أيضاً ألا نستخف بها أبداً، فقد حققت نتائج مذهلة على أرض الواقع.. ما هي مواصفات الشركة التي يستثمر بها (وارن بافيت)؟
هناك أربعة شروط أساسية يجب أن تتصف بها الشركة قبل أن يقوم (وارن بافيت) بالاستثمار بها:
أولا: الشركات التي تستطيع فهمها وفهم طبيعة نشاطها:
وهي ما يسمى بالشركات (التقليدية)، كان ولا زال (وارن بافيت) من أشد الحذرين من الشركات الغامضة والتي لا يعرف نشاطها، أو الشركات التي يكتنف مستقبلها غموض بناء على عدم وجود تاريخ قوي لها، ولذلك تجنب الاستثمار في شركات التنكنولوجيا، وشركات الألياف البصرية وشركات الانترنت، فجميع هذه الشركات رغم أنها كانت مغرية بشكل كبير للسواد الأعظم من المستثمرين، فإن (وارن بافيت) لم يغامر بالاستثمار بها، فقد حققت كثير من هذه الشركات أرباحاً خيالية في بداية تشغيلها، وقوبل (وارن بافيت) بموجة انتقادات قوية ولاذعة عن أعراضه عنها، ولكن ثبتت صحة نظرته بعد أن أفلست جميعها أو أكثرها، وكان السبب الرئيسي في ابتعاده عنها، فهي تعد شركات غامضة بالنسبة له، وليس لها تاريخ ناجح يقوي من موقفها، فهي تعمل في مجالات جديدة ولم يكن يستبعد أن تأتي شركات أخرى في نفس المجال الذي تعمل به وتقوم بسحب البساط من تحتها، وهذا ما حصل فعلا وإن تأخر قليلاً.
إنه يحب الاستثمار في شركات مثل: شركات الأثاث، وشركات السجاد وشركات الطوب، وشركات الدهانات، إنها تمثل إغراء كبيراً بالنسبة له، فهي شركات واضحة وطبيعة عملها معروفة للجميع، وتحمل تاريخاً قوياً بالأرباح، ولا يتخيل (وارن بافيت) أن يأتي اليوم الذي يستغني فيه الناس عن (الطوب) مثلا أو عن (دهانات المنازل).
استثمر (وارن بافيت) في شركة (جليت) وعندما سئل عن سبب استثماره بها، قال ببساطة وعفوية: (أتوقع ألا يتوقف الرجال عن حلق أذقانهم) وفعلا هذا ما حدث، فلن يأتي اليوم الذي يستغني فيه الرجل عن (موس الحلاقة).
حقا إنها بساطة وسطحية في التفكير، ولكنها (فعالة) وكانت هذه البساطة في اختيار الشركات من أقوى الأسلحة التي اعتمد عليها (وارن بافيت) في استثماراته.
ثانيا: الشركات التي لها توقعات مستقبلية مبشرة:
يفضل (وارن بافيت) ألا تستثمر في أي شركة إلا بعد أن تقوم بقراءة قوائمها المالية لعشر سنوات سابقة، وترى بأنها قد حققت خلال هذه السنوات العشر أرباحا متصاعدة، عندها يطلب منك الاستثمار ل (50) عاما قادمة.
يرى بأن الشركة التي استطاعت أن تحافظ على تنمية أرباحها لمدة عشر سنوات سابقة، سوف تحقق لك ثروة خلال (50) عاما قادمة، لذلك فهو يحرص كما سبق على الشركات التقليدية ذات التاريخ العريق، ويبتعد عن الشركات الجديدة التي لا يستطيع التنبؤ بمستقبلها مهما كانت مغرية.
ثالثا: الشركات التي يديرها أشخاص أكفاء وشرفاء:
تعد إدارة الشركات من أهم المقومات التي تدفع (وارن بافيت) للاستثمار أو عدمه في شركة معينة، فهو لا يستثمر في شركة إلا بعد أن يكون على إلمام تام بمن يقوم على هذه الشركة، ويعلم أنه ممن يسعى لنجاحها ويتمتع بالإدارة الناجحة والطموحة والنزيهة، وقد يقوم بتغيير استثماراته من شركة ناجحة لشركة أخرى عندما يرى تغيير إدارة الشركة وتحولها لأناس لا يثق بهم أو تدور حولهم شبهات معينة.
رابعا: الشركات ذات الأسعار الجيدة والمغرية:
رغم أن (وارن بافيت) كما سبق لا يولي اهتماما لتقلبات السوق اليومية، بل ولا الأسبوعية، ولا الشهرية في كثير من الأحيان، ولكنه لا يندفع بشراء شركة مهما كانت مواصفاتها مغرية، إن كانت تتداول بأسعار عالية وغير مناسبة لقيمتها الحقيقية في نظره، إنه ينتظر حتى تصل الشركة للسعر الذي يعتقد هو أنه سعر مناسب له، وبعدها يقوم بالشراء بلا تردد، ولا يبالي بالسوق نهائيا، فهو يعد السوق مجرد وسيط بينه وبين الشركة لا أقل ولا أكثر، ولا يؤثر على قراره، وفي حالة تعرض هذه الشركة لهبوط في قيمتها فإنها فرصة جيدة بالنسبة له لزيادة أسهمه في تلك الشركة إن استطاع ذلك، ولا يغير ذلك من نظرته لها، أو يهز من ثقته في شركته التي استثمر بها، فكل خطوة يخطوها تتم بدراسة وقناعة تامة.
ما هي الشركات الرائدة في نظر (وارن بافيت)؟؟
يقول وارن بافيت: الشركات الرائدة هي كالقلاع الحصينة، لها جدران عالية وخنادق عميقة، وكلما كثرت حولها أسماك القرش ينصحك بالاستثمار بها، لقد كان لكلمة (الشركات الرائدة) بعدا كبيرا عندما أطلقها (وارن بافيت) وكان لها مفعول السحر على كثير من المتداولين، وكان يقصد بها الشركات ذات الكيان المميز والتي تقوم بتوفير منتج أو خدمة، ويكون نجاحها مضموناً. ويرى بأنه يجب أن تتوفر بالشركة أربعة شروط حتى تكون من الشركات الرائدة:
1- أن تكون مرغوبة ويحتاج لها الجميع.
2- أن تكون بأسعار مناسبة.
3- يرى المستهلك أنه ليس لها بديل.
4- لا تخضع للأسعار المألوفة.
من عبارات (وارن بافيت) :
كثيرة هي العبارات التي يطلقها (وارن بافيت) ويكون لها مفعول السحر لدى المتعاملين في أسواق المال، ولكن سأقتصر على عبارتين فقط:
- فكر لمدة عشر سنوات، خير من أن تفكر لمدة عشر دقائق، وإن كنت لا تستطيع الحفاظ على السهم لعقد من الزمان، فخير لك ألا تشتريه من الأساس.
- البيع بسبب الخوف فقط، دائما ما تكون له نتائج سلبية.
متى يقوم (وارن بافيت) ببيع اسهمه؟ سياسة (وارن بافيت) الدائمة هي: الشراء بهدف التملك وعدم البيع لأجل غير مسمى، لذلك لم يعر اهتماما لجميع التقلبات التي تعرض لها السوق الأمريكي منذ عام 1965 حتى 2007، ولم يأت بعد الأمر الذي يدفعه لبيع اسهمه، وعندما سئل متى سيقوم بتصفية محفظته وبيع أسهمه قال: سيبيع عندما تتعرض أمريكا لحرب نووية...!!!
هذه مقتطفات من تجربة أحد أهم المستثمرين في العالم، وطريقة تفكيره وتعامله مع سوق الأسهم، وبها مواصفات الشركات الجيدة ذات القيم العالية، وبذلك لم يبق لنا سوى بيان الوقت المناسب لشراء تلك الشركات، وهو ما سيكون بشيء من التفصيل في مقال الغد بإذن الله.
وبالمناسبة لا أنسى أن أقول بأن تجربة (وارن بافيت) قوبلت باستهجان كبير في بداية الأمر خاصة عندما كانت الأسواق تتعرض لتقلبات حادة وتغلب عليها روح المضاربة كما هو حال سوقنا اليوم، ولكن مع الأيام أثبتت أنها الأصح والأكثر فاعلية.
فهد الحربي