Al Jazirah NewsPaper Saturday  26/01/2008 G Issue 12903
السبت 18 محرم 1429   العدد  12903
انحسار الطبقة الوسطى..لمصلحة منْ؟
عبد العزيز السماري

تأتي الطبقة الوسطى في منزلة بين منزلتي الفقر والثراء، وتمثل نسبتها في أي مجتمع مقدار العدالة الاجتماعية على أرض الواقع، والعلامة التي تدل على مستقبل أكثر أمناً، فهي الترمومتر..

......التي تستطيع من خلاله قياس نجاح الخطط التنموية، والميزان الذي يجب أن يكون تحت المتابعة الدائمة، فميله باتجاه الفقر يعني أن خللاً يحدث، ولا بد من معالجته من أجل الاستقرار..

الطبقة الوسطى مفهوم اجتماعي اقتصادي ثقافي استمدته الثقافة العربية من خلال احتكاكها بالثقافة الغربية الحديثة، ومن أهم أغراضه أن تحقق على الأرض في أي مجتمع، أن ينتج استقراراً سياسياً وتطوراً اقتصادياً وانفتاحاً ثقافياً.

تتكون الطبقة المتوسطة من صغار التجار، وأصحاب المشاريع الصغيرة والمهنيين كالأطباء والمهندسين والصيادلة والمعلمين وضباط الأمن والجيش وموظفي الحكومة والبنوك والفنيين وصغار المزارعين، كما يدخل المثقفون والكتاب والصحفيون ضمن هذه الفئة، وأيضاً الرسامون ومن يجد في الإبداع غاية في حياته.. أي أولئك الذين لا يبحثون عن السلطة من خلال المال إذ تغنيهم مدخولاتهم المتوسطة للتفرغ في مجالات العمل والإبداع.

الخطر الحقيقي على المجتمع واستقراره هو في ذوبان هذه الفئة، وانحسارها بسبب التضخم وارتفاع التكاليف المعيشية نتيجة لانحدار مدخولاتهم السنوية في ظل نمو غير عادي لأرصدة الأثرياء، وازدياد غير محدود لمستويات الفقر في المجتمع..

يحدث مثل هذا إذا أصبح المال أداة سلطوية في يد الطبقة الثرية، أي وسيلة يسعى للحصول عليها من أجل السيطرة، كذلك عندما تتداخل الطموحات السياسية مع الثروة، وهو ما قد يقود إلى ما لا تحمد عقباه حين تصبح هذه الصراعات هدفها دخل المواطن ومدخراته، وتؤدي إلى انحساره إلى المجهول في عالم الفقر.

الفساد أيضا يسلب مدخرات وحقوق الطبقة الوسطى، ويقذف بها إلى طبقة أدنى، وهو ما يعني التفرغ للبحث عن العيش من خلال وسائل غير منتجة أو ضارة للمجتمع مثل التسول بمختلف أنواعه، والسرقة، والاستعداد لأخذ الرشوة مقابل خدمات في مجال عمله الرسمي، ومع ازدياد صعوبات حياته اليومية تتأثر مبادئه وإخلاصه وولائه، ثم تجعل منه مصدر لإشاعة السلبية، وللعن الواقع، والتحريض نحو الفوضى..

حدث شيء مثل هذا في تاريخ العراق الحديث أثناء الحروب وخلال الحصار الاقتصادي، إذ تلاشت هذه الطبقة الاستراتيجة بسبب ارتفاع معدلات الفساد والمحسوبية، وتحول موظفو الحزب الحاكم إلى تجار سلطة بعد تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي بعد تدهور إنتاج الطبقة الوسطى.. كانت نتيجته انصهار الطبقة المتوسطة وتحولها إلى خانة الفقر، وهو ما كان صيداً سهلاً للمحتل عندما قرر النزوح إلى داخل العراق..وشيء مثل هذا يحدث في أغلب الدول العربية نتيجة لانتشار الفساد، وتداخل السلطة مع التجارة، وهذا بيت القصيد إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتوقف السلطة عن التوسع في زيادة ثرواتها المادية إذا غاب الرقيب عن مهمة تحديد هذه الغريزة الطبيعية.

أيضا كان أحد أهم أسباب سقوط الأنظمة الشيوعية هو محاربتها للطبقة الوسطى، كذلك يعد تلاشي الفئة الوسطى من أسباب قصر عمر الدولة في تاريخ العرب والمسلمين، فنظام الخاصة والعامة يقصي الطبقة الوسطى، ويدخلها في مفهوم الرعاع، وعندما تتضخم الطبقة الخاصة وتزداد تكاليفها تجد في الطبقة الوسطى مصدراً يهدد منافعها إذا تنامت موارد هذه الفئة الحيوية وأصبحت عنصراً منتجاً ومؤثراً في الرأي العام، لذا يتم احتكار التجارة والعقار والأسواق والزراعة، ويتم تخصيص التعليم والصحة.. وينتهي الحال بتحديد مدخولهم السنوي برغم ارتفاع معدلات التضخم، بينما تحظى الخاصة بكافة التسهيلات التي تحفظ وتزيد مدخراتهم السنوية.

من الغباء السياسي أن يتم تصفية هذه الطبقة، ومن الخطأ الجسيم أن يعتقد البعض أن تحجيم هذه الفئة له منافع وطنية من أجل مزيد من السيطرة، فهذه الفئة التي تتميز برغبتها في الاستقرار والحياة هم مصدر الأمن الحقيقي، وهم الذين يظلون عصيين للتجنيد من الداخل أو الخارج، ويجدهم الوطن دائما في صفه حين تحدث الأزمات في المجتمع.

تلاشي الطبقة المتوسطة يعني إعلان فشل لخطط التنمية، وتعطل تام للمحرك الاجتماعي المسؤول عن دفع الوعي أو الحراك الحضاري في المجتمع، فالتغيير الإيجابي والحضاري يأتي من الطبقة المتوسطة، والإبداع الذي يشكل هوية الوطن وواجهته الحضارية أيضا له علاقة بهذه الفئة، فهم العقل المفكر الذي يحافظ على مصالح الوطن واستقراره، وإذا غابت ذهب العقل، وحلت محله العواطف والانفعالات وردود الفعل المتشنجة والمتطرفة.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6871 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد