عندما هل الموت، لا يأخذ إلا الطيبين والأخيار..؟
لست أدري جازماً، لكنني أعرف جيداً أن الموت إرادة وقرار رباني لخالق الخلق سبحانه وتعالى.
وقد قيل إن الجنين في بطن أمه، لا يولد إلا ورب العزة والجلال سبحانه وتعالى الذي أنشأه قد كتب في علمه (الذي لا نعلمه إلا بما شاء) مصيره وقدره قبل خروجه إلى الحياة ولهذا فما على الإنسان السوي إلا الإيمان بالقدر خيره وشره.
تداعى لي هذا التساؤل عندما قرأت في (الجزيرة) الخبر الحزين برحيل والدنا الشيخ صالح العلي العجروش عن دنيانا، وهو ذلك الإنسان المؤمن النبيل الذي ترك ربه -إن شاء الله- راضياً مرضياً عنه، وترك بعد رحيله هذه السمعة الناصعة من كل محبيه وعارفيه.
كان (أبو خالد) عليه رحمة الله، من أوائل من عرفت قبل 32 عاماً في بدء مشواري الصحافي عندما عملت في عام 1972م محرراً إبان انطلاقة صحيفة (الجزيرة) في إصدارها اليومي في قرار تحد مصيري وتاريخي جريء اتخذه رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك بدعم ومساندة قوية من المدير العام للمؤسسة الشيخ صالح العلي العجروش، بعد مباركة من رئيس مجلس الإدارة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز السديري وأعضاء المجلس.
والذي لا يعرفه الكثيرون أن أبا خالد -رحمه الله- كان الجناح الآخر القوي الذي حلق به رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك في سماء تألق (الجزيرة) في عصرها الذهبي عند انطلاقتها اليومية المدوية في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، والتي شهدت تنافساً محموماً مع الزميلة صحيفة (الرياض) التي سبقت (الجزيرة) في صدورها اليومي، لكن (الجزيرة) بفضل الدعم المطلق لإدارة المؤسسة التي يمثلها (أبو خالد) رحمه الله وبجهود جبارة من هيئة التحرير المتواضعة التي لم يتجاوز عدد أفرادها عشرة أشخاص بقيادة (أبو بشار) وتجاوزت (الرياض) الصحيفة واكتسحت سوق التوزيع والإعلانات وبيانات ميزانيات الأرباح المتصاعدة سنوياً، وهذه قصة مشهورة يعرفها أهل الصحافة..!!
إن التعاون والانسجام والتفاهم والتنسيق والدعم الذي حدث بين الشيخ صالح العلي العجروش كمدير عام للمؤسسة والأستاذ خالد المالك رئيس التحرير في ذلك الزمن شكل سابقة غير مألوفة في تاريخ المؤسسات الصحافية في العلاقة الحميمة بين الإدارة والتحرير.
عندما أقول هذا الكلام، فإنني أسجل للتاريخ أن الشيخ صالح العلي العجروش -رحمه الله- شكل ثنائياً ناجحاً مع (أبي بشار) في صدور (الجزيرة) اليومي وما حققته من انتشار وتألق في السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات الميلادية، وعندما خرج (أبو بشار) من (الجزيرة) خرج العجروش من الباب الآخر، لأنه أحس أنه غير قادر على العطاء وأن استمراره في المؤسسة لن يكون في صالحه ولا في صالح العمل.
والذي يحسب للراحل الكبير، أنه لم يكن يوماً من الأيام يتحدث في مجالسه أو حتى عندما كان يكتب زاويته اليومية (صباح الخير) على الصفحة الأخيرة من (الجزيرة) عن أدواره وإسهاماته في نجاح وتطور المؤسسة أو الصحيفة وهذا ديدن الرجال العظام.
ومما أتذكره عنه -رحمه الله- أنه كان قريباً من العاملين يتحادث يختلط بهم في مكاتب وأروقة المؤسسة وعقب تأديته للصلوات حيث كانت سجادته مفروشة على الدوام خلف الإمام سواء داخل المطابع أو في الحديقة الأمامية لمقر المؤسسة المواجه حالياً لمبنى الأمن العام في شارع الناصرية كان يتخاطب مع المحررين والعمال، ويستفسر عن حالهم وأحوالهم وقوله عبارته الشهيرة (أنا زميلكم من أراد شيئاً فمكتبي مفتوح) ويشهد الله أن باب مكتبه كان دائماً مفتوحاً لكل الزائرين، حتى لأصحاب الحاجات والمتسولين، فلم أعرف يوماً أن للشيخ صالح العجروش -رحمه الله- سكرتيراً أو مديراً لمكتبه..!!
وأتذكر دعوته -ذات يوم- للمسؤولين في المؤسسة والصحيفة لمأدبة غداء في منزله شرق مبنى العقارية بشارع الستين في الرياض، فهو لم ينس في دعوته عمال المطابع والمستخدمين، وكان يقف بنفسه -رحمه الله- على ضيافتهم كأنهم من أفراد أسرته وأهل بيته..!!
لم أستغرب عندما قمت بواجب العزاء في وفاته لإخوته وأبنائه وجود تلك الحشود من المعزين الذين ضاق بهم صالون مجلسه في منزله، وكان بينهم مسؤولون كبار وعلماء ووجوه المجتمع ومن عامة المواطنين من عارفي فضله وجليل أعماله الحافلة بطاعة ربه وخدمة وطنه، لهذا امتلأت القلوب بتقديره ومحبته.إن رحيل الشيخ صالح العلي العجروش - رحمه الله- خسارة كبيرة لما اتصف به من تفان وإخلاص ووطنية صادقة جعلته في منزلة رفيعة عند قادته وبين أهله وعارفيه، فقد أقر له الكثيرون بالصفات الحميدة: النزاهة والأمانة ونظافة اليد، ولم تزده المغريات من حوله إلا مزيداً من التمسك بهذه المبادئ النبيلة.إن اسم الشيخ صالح العلي العجروش -رحمه الله- سيبقى اسماً لامعاً وخالداً في الأذهان، أليس هو الذي عندما يذكر عشاق (الجزيرة) يأتي في مقدمتهم..؟!
مات الرجل (أبو خالد) وبقي حبه في ذاكرتنا.. رحمه الله، رحمة الأبرار والصالحين.. وجميل الصبر والسلوان لأهل بيته وذويه ومحبيه.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}