Al Jazirah NewsPaper Thursday  24/01/2008 G Issue 12901
الخميس 16 محرم 1429   العدد  12901
رؤية اقتصادية
للخروج من أزمة السوق
الاستثمار في القيمة ( 2- 4 )

أتمنى ألا يكون الهبوط القوي في سوق الأسهم السعودي يوم أمس الأول صارفا عن قراءة المقال السابق ((الاستثمار في القيمة 1))، تمنيت في بداية الأمر أن ينشر المقال في هذا التوقيت ومع ذلك الهبوط، لأوضح به ما أراه من أهمية التركيز على ((قيم الأسهم)) بغض النظر عن حالة السوق الوقتية صعودا أو هبوطا، ولكن قوة الهبوط الذي حصل يوم أمس الأول وحدته لم تكن متوقعة بهذه الصورة، وأخشى ما أخشاه أن يكون سببا في صرف القارئ عن المقال السابق ومضمونه، أو صرفه عن هذا المقال المشابه له في الاتجاه، بل لا أستبعد أن يكون سببا في استهجانه، لا ضير، رغم صعوبة كل ذلك على الكاتب، ولكن إن نجح هذا المقال في الوصول إلى ضمير القارئ رغم سوء المناخ المحيط به، فإنه بذلك يسجل نجاحا مضاعفا، وإن اكتسبت به عددا أقل من القراء مقارنة بما لو نزل في وقت قوة السوق أو هدوئه، ولكني سأراهن على أنه سيستقر في قلوب من يكمل قراءته بشكل أفضل بإذن الله.

قطار السوق يسير إلى الأمام بلا توقف

هذه الحقيقة -بكل أسف- نادراً ما نجد من يهتم بها أو يعرج عليها، سوق الأسهم بشكل عام لو نظرنا إليها من مكان شاهق بنظرة دقيقة، لرأيناه يسير في مسار صاعد، من غير التفات لجميع المؤثرات القوية التي تحيط به، ولوجدنا لديه القدرة الكافية على التغلب على جميع الصعاب التي تمر به سواء طال زمانها أم قصر.

هناك عوامل كثيرة دائما ما تثير حساسية سوق المال وتثير انفعاله، وتحدث له ما نسميه دائما ب((الانهيار أو التصحيح القوي)) كالتغير في نسبة الفائدة، أو التضخم أو الانكماش، أو القرارات السياسة والاقتصادية، أو غيرها مما هو أقل منها أثرا، سنجد السوق يستجيب لجميع تلك العوامل ولا يغفل شيئا منها، ولكن في النهاية نجد أيضا أن السوق يتغلب عليها، ويواصل مسيرته الصاعدة من غير اكتراث بتلك الحوادث، سوى كونها حوادث تاريخية مؤقتة تزيده قوة وصلابة، عندما بدأ السوق السعودي من الصفر، وكانت البداية ب((100)) نقطة، هل تظن أنه عاد وكسر ذلك الحاجز؟؟ أم استمر في رحلة صاعدة حتى اليوم، اليوم المؤشر يزيد عن 9 آلاف نقطة، إذن هو في مسار صاعد، هل تتوقع أن يعود المؤشر لنقطة الصفر من جديد؟؟

الحقيقة أن السوق بشكل عام في مسار صاعد ومتواصل، وسوف يستمر على هذا المسار الصاعد، وجميع ما مر به مجرد محطات عابرة لم يلبث أن تجاوزها بنجاح، وصل السوق لقمته التاريخية: 20 ألف نقطة، خلال ما يزيد عن عشرين عاما، هل تعتقد أنه سلم من كل تلك العقبات التي سبق أنها تثير الحساسية والانفعال لديه بشكل كبير؟ بالطبع لا، ولكنها أعاقته كثيرا في مراحل معينة، ومن ثم عاد ليواصل مسيرته الصاعدة، فالسوق قطار يسير إلى الأمام بلا توقف، أيضا ما يمر به السوق اليوم، هو عبارة عن تعرجات سبق وأن تعرض لمثلها أو لأشد منها، ولكنه في نهاية المطاف تجاوزها ليواصل طريقة إلى الأمام، هذه حقيقة سوق المال، في أي سوق ناشئ في الدنيا، والتي يجب أن يضعها المستثمر ((العبقري)) بين عينيه، إذا استطعت أن تصل لهذه الحقيقة المهمة، واستطعت أن توفق في مزامنة المناخ المناسب للاستثمار في سوق المال، فكل ما يجب عليك فعله حينئذ هو محاولة اقتناص أفضل الشركات القوية والتي تتمتع بإدارة ذات كفاءة عالية، ولديها نشاط حيوي وأرباح قوية متواصلة، لتضع أموالك فيها، ثم لتجعل قطار السوق يسير بها عبر الزمن، لتقيم استثماراتك لاحقا من غير أي اهتمام بتعرجات الطرق الملتوية التي يمر بها السوق، وبما أنك لست عرافا ولا كاهنا لتكتشف مستقبل الشركة وماذا قد يحل بها، فما عليك سوى قراءة قوائمها المالية لآخر خمس سنوات لترى حينها مدى قوتها ومدى جدواها للاستثمار، ((يرى ورين بافيت أنه يجب عليك قراءة قوائم الشركة لعشر سنوات مضت، ولكن هذا متعذر في أغلب شركات السوق السعودي لصغر سنه)) ولكن يجب عليك أيضا أن تبتعد عن السؤال الغبي الذي يطرح دائما: كم سيكون سعر الشركة غدا، وهل ستهبط أكثر أم ستصعد، أم تبقى على سعرها الحالي؟

يجب عليك أن تكون مقتنعا بالسعر الذي أمامك، وبالشركة التي تريد الاستثمار بها، وأنها بسعر أقل من سعرها المستحق، وأن تطلعات الشركة سوف تدفع بها لأسعار أفضل بكثير، ولا تلتفت كثيرا لمثل تلك الاستفسارات، فهي استفسارات غبية، ناتجة عن الخوف والتردد وهي من أبرز سمات الأغبياء في أسواق المال، فلا أحد يستطيع أن يعرف ما هو السعر المستهدف لأي شركة غدا أو بعد غد، ولكننا نستطيع أن نعرف سعرها اليوم، والمستثمر العبقري هو الذي يعرف هل سعرها الحالي مناسب لوضعها العام خلال سنوات بناء على أداء سنواتها السابقة أم لا، وهذا ما يسميه المستثمر العبقري ((ورين بافيت)) ب((الاستثمار في القيمة))، فهو لا يهتم سوى بقيمة الشركة السابقة والحالية والمستقبلية المتوقعة، فمتى ما رأى سعر الشركة مناسباً له في الشراء حاليا يبادر بالشراء ولا يولي جميع الأمور الأخرى المحيطة بالسوق بل ولا يولي السوق برمته أي اهتمام، فقد قام بالشراء في عز الخوف وأثناء أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، سوف أضرب لك مثالا ملموسا لتعرف الحقيقة، ولتعرف كم هي مؤلمة، ومفرحة أيضا!! عندما أنشئت شركة ((صافولا)) عام 1979 كانت قيمة السهم (10) ريالات ((بعد التجزيئات طبعا)) من اكتتب في هذه الشركة في ذلك الوقت ب ((1000)) سهم فقط، بقيمة: ((10.000)) ريال ((عشرة آلاف ريال)) ترى كم يملك الآن،،؟؟ يملك الآن ما يقارب 90 ألف سهم من أسهم الشركة، السهم الواحد بسعر 42 ريالا، أي في محفظته ما يقارب: 3.780.000 ريال، ثلاثة ملايين وسبعمائة وثمانون ألف ريال، هي نتيجة استثمارات عشرة آلاف ريال فقط في شركة ناجحة خلال ثمانية وعشرين عاما، لا شك أن من كان بهذه المواصفات يعتبر من كبار المستثمرين وعباقرتهم، طبعا لم يكن السوق خلال الثمانية والعشرون عاما الماضية والتي تكونت فيها كل تلك الثروة لمالك صافولا العبقري بالسوق المثالي، بل لقد مر بأزمات خطيرة جدا ومنعطفات حادة للغاية، كهبوط أسعار النفط مرتين لأرقام دنيا، وحرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية وأحداث فلسطين ولبنان وغيرها، كل هذه العوامل رغم قوتها وتأثيرها الذي لا يمكن تجاهله، إلا أنها لم تثن المستثمر العبقري عن الاستفادة القصوى من نمو شركة رائدة ك((صافولا))، قس على ذلك من استثمر في صافولا مثلا ابتداء من عام 2003 عندما كان سعرها 9 ريالات فقط، فمن استثمر فيها في ذلك الوقت ب 1000 سهم، لا شك أنه الآن يمتلك ما لا يقل عن 60 ألف سهم، قيمتها بسعر اليوم: 2.520.000 ريال، مليونان وخمسمائة وعشرون ألف ريال، قيمة استثمارات ((9)) آلاف ريال خلال أقل من خمس سنوات فقط!!!

لا شك أنه أمر مغرٍ جدا، ومربح جدا، ومفيد جدا، لقد كان في السوق السعودي إلى عام 2003 ما يقارب 80 ألف مستثمر، وأصبح الآن أكثر من أربعة ملايين مستثمر، ترى كم منهم استطاع أن يحقق هذا الإنجاز ويربح 2.520.000 من عشرة آلاف فقط؟؟ لا شك أنهم قلة جدا بل يعدون على أصابع الكف الواحدة، وهم العباقرة، والبقية هي من كانت تردد تلك الأسئلة الغبية: كم سيكون سعر الشركة غدا، وهل سيهبط أم يصعد أم سيبقى على ما هو عليه؟ وما أكثرهم اليوم وأمس وغدا، يسيرون ويرددون: كم سيكون السعر غدا، وبعد غد، وهل سيتغير أم يبقى على ما هو عليه؟، ولو التقيت بهم بعد عشرين عاما ستجدهم يرددون نفس السؤال من غير أن يكونوا قد استفادوا شيئا من السوق سوى العناء والنصب، ترى خلال هذه السنوات التي نمت فيها قيمة السهم بهذه الصورة وترعرعت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ألم تمر بالسوق ظروف قاسية أثارت له الحساسيات الكثيرة التي سبقت الإشارة إليها؟؟ بالطبع، لقد حصل كل ذلك.

ولكن دائما عباقرة المستثمرين لا يلتفتون لكل ذلك، ويعلمون أن جميع هذه الأمور هي أمور طارئة ووقتية، لا تلبث أن تزول، بل يستغلونها بشكل إيجابي، وهو الشراء وعدم البيع عندما تصل الأسعار لأدنى مستوياتها أو لمستويات غير مستحقة مقارنة مع وضع الشركة المستهدفة، ولك أن تقيس على صافولا في ذلك الوقت جميع الشركات القوية التي تطرح الآن للاكتتاب ومن ثم للتداول بقيم زهيدة جدا ومسيلة للعاب.

لقد استطاع ((ورين بافيت)) أن يكون ثروة تتجاوز الـ(40) مليار دولار، أي ما يقارب ((150)) مليار ريال، ابتداء من أواسط الستينيات حتى اليوم، لنستعرض بعضا من الكوارث والنكبات التي مرت على السوق الامريكي بعد دخول ((ورين بافيت)) له، ولنرى هل تأثر بها أم لا.

حرب فيتنام وتورط الولايات المتحدة بها، ثم ارتفاع الضرائب، ثم أزمات متلاحقة داخل البيت الأبيض أدت إلى استقالة بعض الزعماء الجمهوريين، ثم أزمات النفط المتكررة، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم انهيار مؤشر الداو جونز 20% في يوم واحد، ثم التغير الشديد في سندات وزارة المالية، وأخيرا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من ارتفاع خرافي لأسعار البترول.

جميع هذه الأزمات مرت على السوق الأمريكي و((ورين بافيت)) مستثمر به، وأقلها حدة قد فعل بالسوق الأمريكي كما فعل بنا الانهيار السابق، أو كما يحدث في سوقنا اليوم، ولكنه لم يحرك ساكنا، ولم يفقد ثقته بالسوق لأنه يضع قدميه على أرض صلبة، فثقته في السوق نابعة من ثقته في شركاته، وفي النهاية خرج كأكبر مستثمر عرفه التاريخ، بثروة تعتبر من أكبر الثروات الخاصة على مستوى العالم.

الأمر بكل بساطة أنه لا يستطيع لا هو ولا غيره التكهن بمثل هذه الأحداث قبل أن تقع بدقة كبيرة، ولكنه يستطيع التكهن بأداء شركاته في المستقبل إذا ما بنى نظرته لها بتاريخها المشرف القوي، إذا استطعنا الوصول لهذه الحقيقة المذهلة، فنحن سوف نتخلص من كثير من الأمور الضارة وغير النافعة لنا خلال تعاملاتنا مع السوق، فلن نعود بحاجة لمحلل يومي يخرج لنا عبر الفضائيات أو الصحف أو المنتديات ليخبرنا ماذا عساه أن يكون السوق غدا، بل نحن لسنا بحاجة أصلا إلى متابعة السوق المرهقة في كل لحظة وثانية، فضلا عن متابعة الأحداث السياسية والاقتصادية التي تحيط به من كل مكان، مما يزيد من إرهاقنا وزعزعة الثقة في أنفسنا، فنضيع الكثير من الفرص الحقيقية والتي نراها تتسرب من بين أيدينا، إذا استطعنا أن نصل لهذه الحقيقة المذهلة، فسوف نستغل أوقاتنا في القراءة في قوائم الشركات النافعة والجديرة بالاقتناء والتوريث وعدم البيع، إذا استطعنا أن نصل لهذه الحقيقة المذهلة، فلن نتعامل مع السوق ككابوس، بل كفرصة تتجدد يوما بعد يوم، وسوف نبتعد بلا شك عن الشركات الوهمية التي لا تسوق لنا سوى الوهم والثراء الفاحش المزعوم ونلجأ للبحث عن الثراء الحقيقي الذي كون لكثير من الأذكياء والعباقرة ثرواتهم، عند هذه الحقيقة المذهلة، سوف تنحل كثير من العقد، وتفك جميع الطلاسم، ويصبح السوق كتابا مفتوحا يستقي منه الجميع، وليس العباقرة فقط، وقد تسأل وتقول: إنني لن أصبر عشرة أو عشرين عاما، لكي أحقق الربح؟؟!! فأقول لك.. نواصل

فهد الحربي



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد