هي حسناء، يشترك في تكوينها ورسم ملامح حسنها مثقفون ومثقفات في جميع الثقافات المتعددة أصولاً وفروعاً، كل حسب مجاله وتخصصه، بلا تحديد جنس أو هوية أو شهادة منشأ. (إن الثقافة) تتجاوز جغرافية الحدود زماناً ومكاناً، تثري الأثير، تسبر أغوار البحار، تجيد السباحة والعوم.. إنها جميلة الجميلات، ممنوع التعامل معها أو التحدث إليها إلا مع من يكون محرماً لها، هي المدينة الشامخة، جذورها في الماء وفرعها في سماء تضيئه قطوف ثمار عقول ساكنيها والمنتمين إليها؛ فهي شمسها وقمرها ونجومها، مدينة ديمقراطية الدستور، تمنح لأهلها هوية انتماء بقدر إيجابية المشاركة في البناء والتأهيل، تنتظر المبتدئ حتى يترعرع ويكبر، والمتعثر إلى أن يشتد عوده. ومما يثلج الصدر عندما نرى المثقف العربي السعودي يحظى بمكانة في الصدارة يشارك في الريادة أكان أديباً ناقداً أو راوياً قاصاً أو شاعراً أو كاتباً.. وممن يرسم خططها المستقبلية. مدينة ليست كمثل المدن، تفرح، تحزن، تغضب، تأسف لمن لا يأبه لهيبتها، لا ترحم من يحاول النَّيل من أعلامها أو أركانها، الدخول إليها من غير بوابتها الرسمية (مرفوض)، التسلل خطأ مكشوف، الإقامة بها بلا هوية مخالفة (عظمى)، تتميز عيونها الساهرة بدقة انضباط، تنفرد فطرياً بالحاسة السادسة، تدرك الغث من السمين، ملمة بتقنية فصيلة نكهة المعنى والمفهوم وعلم البصمات المعرفية الحسية وإلى أي فكر تنتمي، صمام أمان، ومن يحاول عبثاً تجاوزه بأي مستند (والسلام) ليشمله المسح حين التعداد الدوري لسكانها فهو (واهٍ)، عيونها تعرف من أي موقع (رهم)، ومن أي فكرة (أقتبس)، وأي قصاصات جرائد ومجلات عفا عليها الزمن (نبش). إنها مدينة أبوابها مفتوحة على مدار الأيام والسنين، ترحب بكل من يمتلك آلية قراءة لغة أبجدياتها بلا ملامح مستعارة أو أقنعة ملونة، لا تقبل معطيات من نتاج بائت مكرور، منهجها التجديد والتحديث المتماشي مع أخلاقياتها وقيمها ومبادئ قدسية رسالتها التي هي شعارها، أي مخالف لذلك يسقط اسمه تلقائياً بدون سابق إنذار.. من هنا تبرز المعاناة، الكثير منا يعيد حساباته وإن وجد نفسه قد تراجع إلى مربعات متأخرة يكرس جهده بترميم ذاته وتأهيلها مرة أخرى اقتناعاً منه (أن لكل جواد كبوة)، هذا عين الصواب، تصرف حسن مطلوب.
أما (الآخر) فلم يعترف بإخفاقه، صار يغالط ظنونه برؤية (ظل) مفاهيمه وقت عصارى الأيام (بدون أن يترحم حتى على روح الحجاج بن يوسف)، رحمك الله، رحلت وتركت الحبل على (الغارب)، فسيطرت عليه سلبية ردة فعله، غرد خارج السرب (كوم رفات درايته)، واعتلاها يجسد (ثقافة انفصام عاطفته المعرفية)، نصب شخصه (منتقداً لا ناقداً) في سياقات مغلفة بقشور (مفلسفة)، تبدأ جملها وتنتهي من منتصف مسافاتها الفهمية، لا يفرق فيها بين (الرسن والوسن) من خلال كتابات بها يتكشف لنا معاناة بقعة حفظه، لا تحكي إلا عن (نفوق) واقعية لمعانٍ ومفاهيم لم يتبقَّ إلا (أشلاء نصوصها)، تمازجت أنفاس زفيرها بالحبر الذي كُتِبت به. لعله نسي أو تناسى ساحة تزخر بأقلام فطاحلة فكر وأدب ونقد يشار إليهم بالبنان، هم أساتذتنا وموجهونا (أكهل أرفف المكتبات حمل مؤلفاتهم في شتى بحور الثقافة والفكر والنقد الذين لا نزال ننهل عند إضاءات عقولهم)، فأخذ تارة يسفه وأخرى يندد وينعت بعبارات دخيلة على (مود) الثقافة والمثقفين - لكل من تتجاوز مساحة تفوق نتاجه (حيز كتلة رفات درايته)، يعترض على كل رأي لا يحمل رائحتها أو نكهتها، حقاً إنها ظاهرة غريبة شاذة يندى لها الجبين، متى تتوارى من سماء الثقافة والمعرفة (ليتسنى للبلابل أن تكتب للطيور نوتة التغريد)؟
عبدالعزيز بن خالد الشدي