هل علينا أن نغمض عيوننا أو نتظاهر بالعمى إن لم نكن نعاني فعلاً من العمى الذي لا يعانيه من حرموا من نعمة البصر وهو فقدان البصيرة لئلا نسأل أو على الأقل تساورنا الشكوك عن علاقة - ما - إن لم نقل مريبة بشكل فاضح بين مؤتمر أنابولس وبين زيارة بوش للمنطقة و(لإسرائيل) تحديداً وما دار فيها, وبين كارثة إقفال غزة لتتحول إلى ......
....مقبرة جماعية لريثما تمر عربة (السلام الأمريكي الإسرائيلي) المزعوم العاثر على جثث أطفال غزة وتتعداهم إلى سواهم؟.
ألا يبدو الآن واضحاً للمتابعين دون أن نظن أنه لا يزال يخفى على الأطراف العربية التي شاركت في ذلك المؤتمر وما تبعه من جولات ما هو الشرط المفصلي المعلن أو المضمر الذي كان يقبع في خلفية التبشيرالأمريكي في ذلك المؤتمر بالعمل على الدفع باتجاه قيام (دولة فلسطينية) عام 2008م؟. تلك الدولة الموعودة بما يفترض أنه يأتي على خلفية قرار الأمم المتحدة 442 وخلفية كل من مؤتمر مدريد في أعقاب حرب الخليج الثانية و تسوية أسلو للعام 1993م على ذلك الجزء المجتزء من أرض فلسطين الواقع على جزء هو الآخر من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967م.
لابد أنه لفت نظر الكثير أو القليل منا وبدا مثار استغراب أن يأتي ذلك (التبشير الأمريكي) بما يشبه إعلان عام 2008 عام الحسم للموقف الذي ظل معلقاً لأكثر من خمسة عشر عاماً وللقضية التي ظلت مغيبة وتنعم بتجاهل الإدارة الأمريكية طوال فترة حكم بوش الصغير الأولى والثانية بشأن قيام دولة فلسطينية مجتزئة تجاور دولة الاحتلال على كامل التراب الفلسطيني.
كما أن ذلك الموقف الأمريكي التبشيري المفاجئ بشأن القول بتسريع إقرار الدولة الفلسطينية لابد أنه بدا مستغرباً أكثر في ضوء مراجعة اتجاه الإدارة الأمريكية الحالية إلى حصر اهتمامها بالصراع العربي الإسرائيلي على موقف إعلان عقاب الشعب الفلسطيني بمقاطعة اقتصادية شاملة في أعقاب انتخابه لحماس وموقف الإصرار على مد أجل حرب إسرائيل على لبنان صيف 2006 هذا في الوقت الذي لم تتوقف فيه هذه الإدارة لحظة واحدة على مدى ثماني سنوات عن التدخل في الشأن العربي بدء من تقارير الإدانة لهذا أو ذاك من الأنظمة التي يفترض أنها ترتبط معها بعلاقة ائتلاف تاريخية وليس نهاية باحتلال العراق وإقامة قواعدها العسكرية هنا وهناك طوعاً أو كرهاً.
هل حصار غزة اليوم في زمهرير شتاء 2008م الذي يلوح بتدمير غزة عن بكرة أبيها هو سيناريو مستنسخ للموقف الأمريكي من حرب إسرائيل على لبنان في صهيب صيف 2006 حين كان تطويل أجل تلك الحرب وإن كانت ستؤدي إلى إحراق لبنان ينسج على المصلحة الأمريكية في مشيميتها مع الأطماع الإسرائيلية في أمل القضاء على حزب الله, حيث حصار غزة الآن وإطالة أمده يهدف إلى القضاء على حماس وبأي ثمن حتى لو كان الثمن إبادة جماعية لشعب كامل على غرار ما حدث للهنود الحمر.
وإن صح هذا التقدير الذي تجد فيه أمريكا محاربة حزب الله أو حركة حماس أو أي كان من حركات المقاومة المشروعة للاحتلال في المنطقة جزء لا يتجزء مما تسميه بحربها على الإرهاب وبما ترى فيه جزء من حملتها على إيران فلا بد حسب هذه القراءة وإن تعقدت وتشربكت الخطوط ومهما خُلطت الأوراق أن يكون حصار غزة الشرس على يد (إسرائيل) ليس إلا مجرد فصل عملي آخر من فصول المخطط الأمريكي للمنطقة لتواصل به أمريكا ما شرعت فيه على أرض العراق وإن أدى إلى إبادة العراق الذي نعرف تاريخياً وما لم يكن عندها مانع فيه لإبادة كامل لبنان وما لا يبدو فيه أن الضوء الأخضر بإبادة غزة إلا شخطة أخرى من عملها عن سابق عمد وإصرار على إعادة ترسيم خريطة (الشرق الأوسط) الجديد أو الكبير الذي لا يبدو أنها تخلت عنه وإن تسترت على ترديد نغمته إعلامياً.
وقد قال رئيس وزراء دولة الاستعمار الاستيطاني أولمرت في تصريح له حول كارثة غزة ما لم يجرؤ على قوله أعتى نظام للفصل العنصري في جنوب إفريقيا قبل سقوط الإبارتيد. حيث قال بما يظهر بشكل سافر نقطة الالتقاء المركزية بينه وبين أمريكا في إطلاق كارثة غزة بدء بالغارات التي حصدت في يوم واحد 19 شهيداً: إن إسرائيل تريد أن تبعث إلى سكان القطاع برسالة تقول إن السلطة التي انتخبوها لتحكمهم هي المسؤوولة عن أوضاعهم الصعبة وعليه ليس في وسعهم التنصل من مسؤوليتهم عن معاناتهم لأن عليهم التحرك لإسقاط حماس عن الحكم.
فهل لا يستشف من مثل هذه التصريحات وتكرارها أن يكون التبشير الأمريكي بدولة 2008 للفلسطينين مشروطاً بإنجاز الديموقراطية الأمريكية على طريقة تطبيقها خارج قارتها مثلما حدث في تشيلي القرن الماضي ومثلما يجري على قدم وساق في مسرحتها المريعة اللحظة الراهنة لإبادة غزة بهدف إبادة أو على الأقل إسقاط حماس.
فهل لا يكون مؤتمر أنابولس الذي ذهب إليه ممثلو (النظام العربي) فرحين أو متحفظين إلا حصان طروادة ليس الأول وليس الأخير الذي يدخله العرب بأقدامهم ليشهدوا فيه زرافات أو فرادى قرارات إبادتهم الجماعية وإن جاءت (مبشرة) بمعسول الوعود.
إن طرح هذه الأسئلة لا ينبع من الميل إلى تفسير الأمور المعقدة بنظرية المؤامرة كما أنه ليس تعليقاً لآمال الخلاص العام أو حلم التحرر والاستقلال على تركيبة سياسية لها صبغة الكيانات المغلقة أي كانت أسس الانغلاق طائفية أو مذهبية أو سواهما من (كونتيننات) السياسة والفكر إلا أنه بالتأكيد ينبع من فرضية بسيطة وأولية ومعروفة عند جميع مجتمعات الأرض التي تأبى الذل, وإن جرى أحياناً خاصة في مزايدات الحراج السياسي وانعدام الرؤية تناسيها أو السهو عنها وهي أن الأمة التي تختلف على الأساسيات أمة لا تستحق الحياة. ومن الأساسيات في هذه اللحظة ألا تمر كارثة إنسانية بحجم كارثة غزة بالأرقام المرعبة لتجويع أسر بأسرها و(تمويت) الأطفال عن سابق إصرار، وقتل مرضى المستشفيات العمد بقطع امدادات الكهرباء والغاز والغذاء والماء والدواء وخنق البلاد بإقفال معابر مطلها على مصر والأردن دون أن نسأل عن الأسباب الحقيقة الآنية والمزمنة معاً لهذا النتيجة المخيفة على الأقل لوعينا الذاتي بطبيعة المحاق الذي تدخله المنطقة مدينة بعد أخرى فيما قد لا يتوقف عند كارثة غزة وكارثة غزة للتذكير لا يشبهها في تاريخ الإبادة البشرية إلا الأفران النازية. كما أن من الأساسيات مراجعة السياسات والمواقف على مستوى النظام العربي وعلى مستوى المجتمع التي أوصلتنا لهذا المستوى من الانحدار الذي يصل بنا أن نشاهد موتنا, جنازات أطفالنا جثث أمهاتنا وآبائنا ومرضانا من شعب عربي شقيق على الشاشات فنكاد نتعود المشهد أو (نغمغم بكلمات مكتومة نصفها دعاء ونصفها شتائم) ونواصل الغذاء أو العشاء.
ويبقى السؤال الذي يشكل عصب ما سبق من الأسئلة وهو سؤال هل في هذه الحالة نكتفي بلوم الإدارة الأمريكية وحدها ومحافظيها الجدد على هذا الموقف الذي تمليه مصالحها في المنطقة وموقف صقورها الأيدولوجي, ويسمح به مناخ المنطقة العام وقابليتها لمشاريع الاستسلام؟ هل نكتفي بلوم إسرائيل دولة الاستعمار الاستيطاني, وهل سوى من المضحك المبكي أن يطلب من يتخذ موقع الضحية الرأفة والرقة من الجلاد؟ هل يجدي الاستنجاد باللجنة الرباعية للسلام؟, أم أننا نملك مقداراً ولو قليلاً من الحياء والشجاعة ومقداراً أقل من الجبن الاجتماعي لنسأل عن مسؤوليتنا عربياً في إقفال المعابر, ومسؤليتنا عربياً مجتمعاً بأطيافه المتعددة من المثقفين إلى مختلف القوى الاجتماعية وكوادرها العاملة والعاطلة وليس أنظمة وتنظيمات وحسب عن الكارثة الإنسانية الفادحة التي تجري لأهل غزة وما سبق وما قد يلحق من كوارث لا سمح الله. هل يمكن إلا أن نساءل الانقسام الفلسطيني المخجل بشتى فصائله ولا نعفي أي ممن هم في موقع السلطة عن دوره البائس في تحويل ذلك الجزء الصغير المجتزء من أرض فلسطين إلى مقاطعات تُقاطع بعضها بدل أن تكون نواة لوطن يكون.. وهذا لله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com