حينما يأتي من يضبط مسار علاقة الأجهزة الأمنية والاستختباراتية بمواطنها الذي يمثل رجل الأمن الأول لتناسب مرحلة جديدة بمتغيراتها الكبيرة وأسلوب حياتها الجديد، ويحولها إلى مؤسسات إنسانية يحبها المواطنون وتحبهم فلا شك أنه ذو حظ عظيم.......
محمد بن نايف من الأمراء الشباب الذين يملكون حسا أمنيا ورؤية وطنية وقلبا مؤمنا. يستحق من يكتب عن تجربته الأمنية؛ إذ نجحت جهوده في إدارة أزمة عارضة لا تستطيع الأجهزة الأمنية في دول العالم المتقدمة تجاوزها إلى بر الأمان دون خسائر بشرية ومادية فادحة..
رأيته مرة واحدة قبل ثلاث سنوات في وزارة الداخلية التي دخلتها أول مرة أيضا لإهدائه كتابا وثائقيا عن الملك عبدالعزيز رحمه الله، صدقاً أعجبني خلقه الرفيع في معاملته المواطنين الذين اختلفت مشارب قضاياهم وخلق المجموعة التي تحيط به، ولا عجب من أدبه الجم وأخلاقه الرفيعة وتجربته الأمنية الناجحة؛ لأنه اكتسبها من والده الأمير نايف، وكفى بهذا الاسم شرفا وقيمة... في تلك اللحظة تذكرت ما يحمله العرب في نفوسم ضد أكثر وزارات داخلياتهم وأجهزتهم الأمنية لأنها اتخذت من المواطن عدوها الأول فاتخذها ذلك المواطن مصدرا مرعبا وشبحا مخيفا... ترتعد فرائصه حينما يمر من جانبها أو يسمع بها فضلا عن طلبها له بالمراجعة لأنها تؤمن بالطريقة الرومانية في عقاب أفراد الأسرة بسبب ذنب فرد منها، حتى قال الشاعر العراقي مظفر النواب (وصرت أحاذر حتى الأطفال وحتى الجدران وحتى التليفون)... تلك الأجهزة التي تمثلها جملة نطق بها المحامي العربي في فيلم وثائقي ذات يوم أمام القاضي في قاعة محكمة حينما ذكره بأن أجهزة أمن الدولة المسلمة حينما روعت أفراد أسر المتهمين لم تكن في مستوى أجهزة أمن أبي جهل وأبي سفيان المشركة حينما رفضت اقتحام بيت سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة قبيل الهجرة بعد أن طال الحصار خشية أن تحدث العرب أن قريشا روعت بنات محمد...
لا يمكن أن أنسى دمعة صديق من بلد عربي يعيش بيننا حتى طاب له العيش ولذ له المقام وحس بالأمان قبل شهر تقريبا، أتيته ذات مساء وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت بسبب اختفاء شقيقه في وطنه على يد أجهزتها الأمنية منذ شهرين ولا أحد يستطيع أن يسأل عن مكانه وسبب اعتقاله، أهو حي فيرجى أم ميت فينسى لأنه يؤخذ بجريرته...
في ذلك الموقف حدثته عن مقال تناول ما كتبه المؤرخ البريطاني جارتون آش ذات يوم عن جهاز (شتاسي)، أشهر جهاز مباحث في العصر الحديث، بعد اطلاعه على ملفه الأمني في ذلك الجهاز ابتداء من أول يوم عبر فيه حدود ألمانيا الشرقية في عام 1980 متوجهاً إلى برلين في مهمة دراسية، وبعد سقوط جدار برلين حولت الحكومة الفيدرالية في بون جهاز (شتاسي) إلى متحف وسمحت لكل من يريد الاطلاع على الملف الخاص به في هذا الأرشيف، وكان منهم المؤرخ البريطاني جارتون آش.... صرخ حينما رأى حجم ملفه تجاوز 350 صفحة، أطل عليه من بين صفحاته حجم هائل من التقارير المملوءة بالخداع والكذب والتزوير من قبل شخصيات وأصدقاء ومخبرين لم يكن يتوقع أنهم يعرفون عنه ما لم يكن يعرفه عن نفسه ويحكمون عليه بشيء لم يقترفه... ومن خلال بحثه في أوراق ملفه وجد تقارير صديقته (ميكائيلا) التي كانت تكتب تقارير دورية عنه، وعن ابنة زوجها. وتقارير كتبها أستاذ جامعي، كان يلتقي به للتشاور والدرس، وتقارير رجل إنجليزي الجنسية كان مكلفاً بمتابعته، وتقارير سيدة معروفة تحمل على كتفيها تاريخا نضاليا طويلا في الحزب الشيوعي الألماني، ولم يكن ذلك النضال إلا أداة لمناضلة مزيفة تحترف التزوير، وما أكثرهم... وختم آش حديث بعبارة: (شعرت ببعض الخجل وأنا أقرأ تقارير كتبها المخبرون عني.. أحسست بشعور الشخص الذي يتجسس على ما كتبه شخص آخر في شأن خاص من دون استئذانه). وأضاف أنه، وهو جالس في مبنى المباحث يقرأ معلومات عن نفسه مر على كتابتها عقدان، (أحسست بشعور رجل في الأربعينات من عمره يتجسس على شاب في العشرينات.... تزاحمت الأسئلة في ذاكرة آش، وكان أهمها سؤال:
ما هذا الشيء الذي يدفع شخصاً ليصبح مدافعاً عن حق الإنسان في العيش الكريم وحرية أخيه وكرامته ويدفع شخصاً آخر ليكون عدواً للحرية ووفياً لأفكار الدكتاتورية والاستبداد؟).
كان السؤال بلا إجابة باختصار، وفي السياق نفسه سمعت مواطنا مكلوما في مجلس ما، يسعى إلى إطلاق سراح ابنه ويتمنى خروجه من السجن لأنه متهم بالحركية والتكفير في الأحداث الأخيرة بعد أن قبضت عليه الأجهزة الأمنية على حدودها مع العراق... حينها ذكرته بموقف صاحبي السابق وقارنت له بين الموقفين بأمانة ومصداقية.. هناك لا تستطيع أن تخاطب جنديا في مسألة من هذا النوع وهنا تخاطب الأمير محمد بن نايف شخصيا في مكتبه الموقر... وكلا القضيتين تتعلق بأمن الدولة واستقرار الوطن... هناك ستعاقب بالطريقة الرومانية لو سألت... هنا ستجد حفاوة واهتماما، وكأن المصيبة مصيبة الأمير محمد بن نايف قبل أن تكون مصيبتك... هناك لن تحصل على أي معلومة تتعلق بالسجين.. وهنا سيلتقي به أبوه وأمه وإخوته وسيخلو بزوجته وتتكفل الدولة بعلاجهم وصرف تذاكر وإقامة إن كان عنهم بعيداً لزيارته... وسيشارك في أفراح أسرته وعزائها ابتداء من الصلاة وانتهاء بنهاية العزاء فضلا عن حصوله على سبل العيش الكريم وربما حضر الأمير محمد بن نايف إلى مكان الفرح أو العزاء أو من ينيبه.. هناك الدولة تفرط في أبنائها وتبطش بهم ولو بالشبهة والظن ولا تحرص على هدايتهم وعلاج الشبه التي زينها لهم شياطين الإنس والجن.. وهنا الدولة تحفظ لك ولدك ومن هم على منهجه حتى لا يكونوا ضحية أحزاب العراق وطوائفه ولم تكتف بذلك بل وفرت لهم لجان المناصحة التي تبين لهم حرمة هذا المنهج وخطورته عن طريق علماء راسخين لتحولهم إلى مواطنين صالحين بعد أن تعالج معاناتهم وظروفهم النفسية والمعيشية ولذلك تراجع كثير منهم بحمد الله... وأما الذين حملوا السلاح وروعوا المواطنين والمستأمنين فالدولة مسؤولة عني وعنك وعنهم أيضا ولذلك نجحت في مواجهة هذه الفئة بكل قوة وإيمان بعد أن وجهت لهم النداءات والضمانات بالعفو وأعطوا مهلة من أعلى سلطة في الحكومة ومن لم يسمعوا نداء الرحمة فقد وجهت أجهزة الأمن لهم ضربات أفسدت مخططاتهم وعدوانيتهم بل إنها نجحت في توجيه ضربات استباقية حماية للعباد والبلاد من شر هذا الفكر المنحرف...
كل ذلك استوقفني حتى أصبح من حق المواطن في السعودية أن يفتخر بهذا الرقي في تعامل أفراد الأجهزة الأمنية مع الإنسان بعد أن شهد بنفسه تطورها وتطور أفرادها الذين يؤمنون أنهم على ثغر من ثغور الإسلام بعد أن وضعوا نصب أعينهم أنه أمرهم بالتثبت في الحكم على الناس ونواياهم، فالله أحق أن يخشى، وهو خير حافظا، وبذلك تميزت فاستحقت ثقة المواطن.... والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com