.تعتبر ظاهرة الشتات من أهم الظواهر التي أثرت في العقل الجمعي اليهودي وقادت
إلى ظهور الكثير من المفاهيم والأفكار، بل والسياسات إلى حد ظهور مصطلح (عقلية الشتات) في الأدبيات اليهودية. وهنا لابد من التفريق بين (الشتات) وبين (المنفى) والذي خلط بينهما الكثير من الكتاب مثل الأديب ، الإسرائيلي أ. ب. يهوشواع الذي يقول: (إن فهم ظاهرة المنفى هو المفتاح من أجل فهم الظاهرة اليهودية).....
.....فالشتات Diaspora هو الخروج الطوعي من قبل اليهود للعيش بين الأمم الأخرى بحثاً عن فرص معيشية أفضل، بينما المنفى (عبري - جلوت) هو الخروج القسري لليهود واقتيادهم من قبل الدول المستعمرة للعيش في بلدان أخرى. وعلى مرّ التاريخ اليهودي منذ السبي البابلي إلى اليوم كانت ظاهرة الشتات هي الظاهرة الأبرز في التاريخ اليهودي. نعم كان هناك منفى تعود جذوره للسبي البابلي، ولكن هذا المنفى كان لقلة من الطبقة الحاكمة وغيرها من علية القوم the Jewish elite ولقد استمر وجودهم هناك لفترة ثلاثة أجيال.
بينما نجد أن الكثير من اليهود حتى من قبل أيام السبي البابلي قد اختاروا العيش بعيداً عن فلسطين. وعندما أصدر الحاكم الفارسي (قورش) مرسومة القاضي بالسماح لليهود الذين جاؤوا مع السبي إلى فلسطين لم يستجب له إلا قلة منهم. واليوم وعلى امتداد الجغرافيا العالمية نجد الكثير من اليهود يختارون العيش بعيداً عن دولة إسرائيل بالرغم من التسهيلات الكبيرة والتشجيعات المتنوعة للهجرة. ومن هنا وبالرغم من أن (المنفى) خروج و(الشتات) خروج، إلا أن الظاهرة اليهودية هي ظاهرة (شتات)، وليست ظاهرة (منفى).
هناك مدرستان فكريتان يهوديتان متباينتان حول مفهوم (الشتات اليهودي)، والتي تسميه الأدبيات اليهودية (المنفى). المدرسة الفكرية الأولى ترى أن الشتات ظاهرة يهودية خالصة ويجب على اليهود القبول بهذه الظاهرة التي لها، طبقاً لهذه المدرسة، دلالات إيجابية بالنسبة للهوية اليهودية. ومن بين هذه الدلالات أن (الشتات) يشير إلى تفرد هذه الأمة اليهودية بين الأمم؛ ففي حين أن اليهود قد تشتتوا في الأرض إلا أنهم نجحوا، بخلاف بعض الأمم، في الحفاظ على مقومات الهوية اليهودية والشعب اليهودي.
إن مثل هذا النجاح في الحفاظ على الهوية اليهودية - طبقاً لرأي هذه المدرسة الفكرية - يعود إلى القدرة الإلهية التي اختارت بقاء هذا الشعب (شعب الله المختار) لمصلحة العالم. نعم تؤمن هذه المدرسة الفكرية بأنه لابد لظاهرة الشتات من نهاية، ولكن هذه النهاية لابد أن تكون طبقاً أيضاً للرغبة الإلهية؛ لذلك عارض أصحاب هذا الاتجاه الفكري الحركة الصهيونية منذ البداية؛ فقد رأوا فيها خروجاً عن الإرادة الإلهية وعدم فهم لفكرة الشتات في التاريخ اليهودي؛ حيث إن هذه المدرسة الفكرية لا ترى الحاجة إلى قيام كيان سياسي لليهود، وكانت كثيراً ما تتساءل: (لماذا الدولة؟). ويمثل هذه الاتجاه اليهودية الأرثوذكسية Orthodox Judaism
أما المدرسة الفكرية الثانية فتنظر إلى الشتات على أنه كارثة حلت باليهود، وأن الشعوب الأخرى هي المسؤولة عن فرضها على اليهود؛ ولذلك يجب على اليهود تحيّن الفرصة المناسبة لإنهاء هذا الشتات والعودة إلى فلسطين. ومن واجب اليهود أخذ زمام المبادرة لإنهاء هذه الظاهرة عن طريق عمل دنيوي ليس ل(يهوه) فيه وجود. وتمثل الصهيونية السياسية هذه المدرسة الفكرية.
هذا التناقض في الفهم اليهودي لظاهرة الشتات أدى إلى الكثير من الانقسامات داخل المجتمع اليهودي؛ فبينما أيد بعضهم (القلة منهم) الحركة الصهيونية في مسعاها لإنشاء الكيان السياسي، رفض الكثير منهم ذلك؛ فقد فضل هؤلاء العيش في الدول التي يقيمون بها ولم يقبلوا الهجرة إلى فلسطين. وهذا يذكرنا بموقف اليهود في التاريخ القديم حيال القضية ذاتها؛ فعندما أصدر الحاكم الفارسي (قورش) مرسومه القاضي بالسماح لليهود الذين جاؤوا مع السبي إلى فلسطين لم يستجب له إلا قلة منهم. وقد مثلت هذه المرحلة تطوراً خطيراً في العلاقة بين اليهود وفلسطين؛ فلم تعد هذه الأرض هي الخيار الأول بالنسبة لليهود للعيش فيها؛ حيث اختار الكثير منهم العيش خارجها؛ وبذلك تغيرت ملامح الهوية اليهودية؛ حيث حلت الديانة اليهودية محل الأرض كمركز الثقل بالنسبة للهوية اليهودية؛ لذلك نجد المؤرخ اليوناني سترابون يذكر في القرن الأول الميلادي (أن اليهود يعيشون تقريباً في كل مكان على سطح الأرض).
فلقد نادى يوحنان بن زكاي بفكرة قوة اليهود في اضطهادهم (عقلية المنفى)؛ حيث حارب بن زكاي النزعة القومية لليهود في عصره؛ وذلك من أجل الحفاظ على الروح اليهودية. ونادى بالعودة إلى المنفى نظراً لاعترافه بقوة وغلبة الأغيار على اليهود. ومن هنا دعا إلى عدم التصادم معهم، بل إلى التعامل مع الذات اليهودية الداخلية.