Al Jazirah NewsPaper Monday  21/01/2008 G Issue 12898
الأثنين 13 محرم 1429   العدد  12898

المِشْراق
أ.د. عبدالعزيز بن محمد الفيصل

 

في أيام الشتاء الباردة يبرز المشراق مجلساً شعبياً يتهادى فيه كبار السن الأحاديث والقصص ونوازل السنين وأيام الحروب والكوارث، ففي أيام المربعانية والشبط تشتد البرودة في الليل فتتحلق الأسر حول النار ومن الأمثال التي تحدد شدة البرد (إذا جت،.....

..... الثريا على الراس ولّم الحطب والفاس) والثريا مجموعة نجوم متدانية تبدو للرائي في شكل حذاء، وترى في هذه الأيام في كبد السماء بعد صلاة العشاء، ولا يطرد البرد في الليالي الباردة إلا حطب السمر الذي يجزئه الفأس إلى أجزاء، ولذلك تقول المربعانية لابنها شباط (لا تجي إلليَّ وقودهم سمر وأكلهم تمر) وإذا كانت النار هي وسيلة التدفئة ليلاً عندما تزرق السماء وتبدو النجوم المتلألئة في الفلك البعيد في ضياء خافت يُشعر بالهدوء وسكون الكون، فإن خيوط الشمس الدافئة عندما تذيب الجليد وتبدد الندى وتحمل الدفء هي الوسيلة لطرد البرد وإغراء كبار السن بالجلوس في المشراق، فالمشراق منتدى الكبار ومجلس الزوار يحضر إليه الرجل وقد التف في عباءته، ومن رواده من لا يصل إليه إلا بمساعدة العصا، ففي المشراق تدفئة مجانية، فالمتعة بالدفء تجلب السرور وتبعد برد السَّحَر، فالمثل يقول: (الشمس فاكهة الشتاء) نعم إنها فاكهة تمد الجسم بمطلبه وهو الاحتماء من البرد والبعد عنه، ألم يقل أحد الشيوخ:

إذا جاء الشتاء فأدفئوني

فإن الشيخ يؤلمه الشتاء

وألم يقل الآخر:

قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه

قلت اطبخوا لي جبة وقميصا

فالمشراق مجلس الأنس، فالشمس تهدي لمرتاديه الدعة والراحة وصفاء الذهن وهدوء البال، ومع صفاء الذهن تنشط الذاكرة وتستحضر الماضي فيتحول المشراق إلى مقام مقامات تُسَبكُ فيه بألفاظ انتقاها الموقف، وجمل تعاورتها الألسنة وأساليب اجْرَهَدَّ لها الخاطر واستهوتها النفوس، فالسالفة تولد الأخرى، والحادثة تذكر بالحادثة، ومجرى الحديث يوجهُ التاريخ ويصنع أساليب حديثة ولدها مجلس المشراق، فالتعبير الجاري يستحدث مهارات، ويولد قصصاً خيالية وأخرى واقعية، كما يستحدث خبراً طريفاً وحادثة عفا عليها الزمن فصيغت بأسلوب المشراق المطرب، حيث تهش له النفوس وتميل له الرؤوس، إنها أحاديث تنافس أحاديث السمر في الليلة المقمرة على كثيب ذي الرمة في مشارف الدهناء.

لقد التفت أبومحمد إلى أبي عبدالرحمن وقال: أتذكر موقفنا في السبلة عندما كنا نترقب خروج عبدالله العنقري واتجاهه إلى الجبيلات المقابلة متخذا جادة في بعول أهل الزلفي من كثرة ذهابه وإيابه، لقد كان الملك عبدالعزيز يرسل الشيخ العنقري لإقناع الخارجين عن طاعته بالطريق السوي، ومن كثرة خروج العنقري وعودته أصبحنا نترقب خروجه كل صباح، مع أنه يخرج في بعض الأيام وليس كل الأيام، ولكننا مللنا الانتظار فنتسلى بخروج الشيخ فنرقبه حتى يغيب عنا، لقد أصبحت جادة العنقري معلماً واضحاً في روضة السبلة يعرفها أصحاب المخيمات الذين ينتظرون مثلنا، لقد كان الانتظار مُملاً إلى درجة أننا نتمنى الحرب بما تحمل من أخطار، وفي ذات صباح والشمس في أول شروقها بدا لنا فارس على حصان أدهم، وكان يقف عند كل مخيم، فانتظرناه حتى اقترب منا فإذا هو سعود بن عبدالعزيز في هيئة المُشَمِّر قد عطف جانبي غترته على أذنيه وربط طرفيها على أعلى رأسه، وجواده يرفع يديه أحياناً فيعطف رأسه بالعنان فيهدأ ثم يستأنف الحركة، وأخيراً وقف الفارس بجانب مخيمنا، وقال: ليأخذ كل واحد سلاحه ويقف حتى يأتيكم الأمر بالتقدم، وكونوا صفاً، وليأخذ واحد منكم التمر ويمر به على الوقوف، ويأخذ رجل آخر الماء ويتبع صاحب التمر، فاستمعنا إلى أمره وامتثلناه، فوقفنا صفاً واحداً. وعرفنا أن الحرب قريبة وبعد ساعتين شاهدنا كوكبة من الفرسان سالكة جادة العنقري ومتجهة إلى (المحاجي) في الجبيلات، وبينما نحن مشغولون بالمنظر إذا بالأمر بالتقدم، فانطلقنا وغمرتنا الحرب بغبارها وأصواتها فانشغل كل واحد منا بنفسه.

قال أبوعبدالرحمن أذكر كل ذلك، وأذكر تقدمنا إلى أم رضمة وجلوس عبدالعزيز بن مساعد في خيمته، وقد أمرنا بحفظ المياه، فرأينا الإبل تزحف على ركبها لتدنو من الماء، إنه موقف مهيب، فالماء في قلب الصحراء أغلى من الذهب، لقد أقمنا في أم رمضة أياماً كلها نشاط، في زمن يتوافر النشاط في أجسامنا، أما الآن فنحن نخاف من البرد مع الراحة وتوافر العيش الجيد واللباس الكاسي للجسم.

لقد استمع من في المشراق إلى حديث أبي محمد، وإضافة أبى عبدالرحمن، فأراد رجل من الحاضرين المشاركة في الحديث فرد عليه آخر بقوله: لقد استمتعنا بحديث تناول شيئاً من تاريخ بلادنا، فإذا كان حديثك في هذا الموضوع فأدل بدلوك وإلا فاترك الحديث لغيرك، فقال الرجل: لقد أسهمت في تثبيت الأمن في هذه البلاد عن طريق مشاركتي في حرب الحدود الجنوبية للمملكة التي حدثت بعد السبلة بسنوات قليلة، لقد كانت حرباً جديدة علينا فالجبال عالية والأودية سحيقة حتى إننا نربط السيارة بالحبال لإنزالها في الوادي، فيجتمع عشرون رجلاً أو أكثر لإنزال السيارة الواحدة، فالوادي لا ينزل فيه الحمار إلا بصعوبة فكيف بالسيارة، ومضت الأيام ونحن ننتقل من وادٍ إلى جبل ومن جبل إلى واد حتى أمر قائدنا بالقفول من تلك الحرب.

وبينما الجميع ينصتون إلى حديث الرجل إذا بصوت يرتفع من جانب المشراق ويقول: اتركوا الحديث في الماضي! ألا تعلمون أن سعر الدجاج الفرنسي قد ارتفع بنسبة ثلاثين في المائة، فالكرتون الذي يباع قبل شهر بخمسة وسبعين ريالاً أصبح اليوم يباع بمائة ريال، فلعل هذا الأمر عرض على الرئيس الفرنسي في زيارته للمملكة؟ وعندما انتقل الحديث عن الغلاء كثر المشاركون في الحديث، فتعالت الأصوات، وقال أحد الحاضرين: إن بعض تجار البلد هم الذين يرفعون الأسعار، فعندما وجدت انفلونزا الطيور رفعوا أسعار الدجاج المستورد، وأخرجوا من مستودعاتهم عجائز الدجاج، فباعوها بأغلى الأثمان، واشترك آخر في الحديث فقال: لقد عم الغلاء، فالحديد تضاعف سعره وأدوات الكهرباء تضاعفت أسعارها مرتين، حتى الألبان التي كانت أسعارها أنموذجاً في الثبات أصابتها عدوى الغلاء، وتحمس الكثير للحديث عندما توجه رجال المشراق إلى غلاء الأسعار، ولكن صلاة الظهر قد قربت فنهض بعض الجلوس وهم يقولون: لنا عودة في الحديث عن غلاء الأسعار، فرد أحد الحاضرين بقوله: الكلام في غلاء الأسعار كثير وتقديم الحلول قليل، فكثر اللغط وتفرق الجمع.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد