اطلعت على ما سطره الأستاذ أحمد بن سليمان العدل في عدد الجزيرة رقم 12860 حيث تحدث عن جامع محمد بن عبدالوهاب ببريدة ولعل هذا ما دفعني للتحدث عن جامع خادم الحرمين الشريفين القلب الرمزي لمدينة بريدة والذي كان يسمى سابقاً بالجامع لأنه الجامع الوحيد الذي يؤمه أهل بريدة جميعا حتى عام 1366هـ فلما تعددت الجوامع بعد هذا التاريخ أطلق عليه (الجامع الكبير) للتفريق بين وبين الجوامع الأخرى، ولا يعرف تاريخ تأسيسه على وجه الضبط ولكن ورد ذكره في التاريخ المكتوب في عام 1153 هجري ولما زار بريدة الرحالة (المستر رويمر) قال إنه يمتاز بالبساطة مثل الجوامع الوهابية الأخرى.
ولقد كان هذا الجامع محور عناية حكام الدولة السعودية الذين تعاقبوا حيث شهد منذ بنائه عدة توسعات وترميمات، فعمارته الأولى عام 1313 هجري قام بها الشيخ محمد بن سليم رحمه الله حيث أصابت منارته صاعقة من السماء وساهم الأهالي مع الشيخ في بنائه، وفي عام 1359 هجري أمر الشيخ عمر بن محمد بن سليم بنقض بنيانه بعد أن تضعضع وأضيف له توسعة من الشمال ولما علم الملك عبدالعزيز رحمه الله بذلك ساهم في عمارته ووقف بجانب الشيخ لإتمام بناء الجامع، وفي عام 1377هـ بعد سنة الغرقة (الهدام) حيث سقط الجامع فيقول الشيخ ابن عبيد في تاريخه في حوادث عام 1376هـ (وفيها سقط الجامع في بريدة فوزع الأهالي صلاة الجمعة في ثمانية مساجد لأنه لم يبق من الجامع إلا أكواخ قليلة وبعثت الحكومة بعض الخيام ومن ضمنها خيمتان عظيمتان تكن المصلين في الجامع الكبير أوقات الصلوات فضربتا في رحبة المسجد) فصدر أمر الملك سعود رحمه الله برجاء من الشيخ عبدالله بن حيمد ببنائه وعمارته بالأسمنت المسلح).
وفي عام 1416هـ تم الانتهاء من مشروع خادم الحرمين الشريفين لبناء الجامع الكبير والذي يعتبر من أحدث المساجد وأكبرها ولم يكن المعمار وجماليته الاستثناء الوحيد الذي يتمتع به هذا الجامع بل الدور العلمي الرائد واللافت فمنذ تأسيسه وهو مصدر إشعاع علمي وفكري حيث عرف بحلقاته العلمية التي كان له أكبر الأثر في نشر الثقافة الإسلامية وإثراء الحركة العلمية في بريدة والتي كان يقودها المشائخ من آل سليم الذين كان لهم الأدوار العلمية والقضائية بالقصيم خلال نصف قرن من الزمان وإن لمجالس الفقهاء في هذا الجامع آثار وأخبار حيث تلتئم الحلقات وتغص بطلاب العلم لينهلوا من أنهار الشريعة ويستعطرون بعبق السنة وتطرح فيها القضايا الساخنة والدليل والاستشهاد والاستنباط مما جعل بريدة تعيش أجواء علمية مزدهرة، ودعونا نأخذ مقطعاً زمنياً لهذا التوهج العلمي بقلم من عاصر تلك الفترة المؤرخ إبراهيم العبيد، ولقد نقلت ذلك بتصرف يسير من وصفه لمجالس الشيخ عمر بن سليم فيقول (كان الشيخ عمر إذا صلى الغداة جلس يلقي دروس النحو والقواعد إلى طلوع الشمس وغالبا ما يدرس به الأجرومية وقطر الندى وملحة الإعراب وألفية ابن مالك ثم يذهب إلى بيته للاستراحة والوضوء ثم يرجع إلى المسجد ثم يشرع الطلاب في العلوم الدينية حديثاً وفقهاً وتوحيداً وأصولاً وفروعاً وآداباً ويحضر مجلسه من القراء والمستمعين ما يربو عدده ألف وقل ما شئت من الرغبة والحرص في الطلب وبعد صلاة الظهر يجلس للتدريس قدر ساعتين وكذلك بعد صلاة العصر وكان هذا التدريس يجعله لمتن الورقات في الفقه وأصول العقيدة بعد ذلك يأخذ التلاميذ في الدراسة عليه في بلوغ المرام في الحديث حفظاً وقد يدرس في هذا الوقت في مصطلح علوم الحديث وبعد صلاة المغرب في الفرائض فإذا أذن المغرب يقرأ عليه في التفسير والتاريخ) ثم يقول: (ورأينا من الإقبال والرغبة ما لا يخطر على الأوهام وشاهدنا من الانكباب على التدريس ما لا تبلغه عبارة فيا لذلك الوقت والزمان ما أحلاه وما أعظم الأنس وما أحسن ذلك الاجتماع) فكم نحن مدينون لهذا الجامع الذي خرج علماء أفذاذا سطعت أسماؤهم في سماء العلم والمعرفة ومنهم إمام الجامع حاليا الشيخ المقتفي لأثر السلف الصالح أبو محمد عبدالله بن إبراهيم القرعاوي فما إن تضع قدمك في أولى عتبات هذا الجامع ويطرق سمعك صوت الإمام وهو يرتل القرآن بقراءة مؤثرة تهز أوتار القلوب إلا وتتخيل أنك قد انتقلت إلى عالم الروحانية والزهد والنسك بما لا يخطر على البال أن يكون في هذا القرن من الزمان، ولقد تميز الشيخ القرعاوي بخطبه الرائعة التي يلقيها من أعواد منبر هذا الجامع فتجذب المخالف وتستميل المفرط وتقرب البعيد وتتألف القلوب وتجلي غشاوات الجهل وترسم طرق النجاة فيزول معها ظلام الشك وضباب الحيرة.