تحقيق - فهد العجلان
بعد أن تعالت الأصوات للدعوة لرفع سعر صرف الريال وطرحه في سياق الحل الناجع لمواجهة التضخم... كان الأمر الملفت للنظر أن الحديث عن التضخم بهذا الزخم أضحى ظاهرة نادرة الحدوث في المملكة الأمر الذي أطلق العنان للأمل في داخلي بأن يساهم هذا الجدل في وعي ثقافي اقتصادي يساعد متخذ القرار على اتخاذ قراره دون ضغوط عاطفية كما يساهم بالرقابة على أداء الأجهزة الحكومية والحد من أخطائها.
لماذا ارتفع التضخم!!
كنت أعرف أن المحلل الاقتصادي فضل البوعينين يدرس هذا الموضوع بشكل مفصل ويبحر في فرز خياراته.. توجهت إليه فسألته حول الأمر فقال: ظلت نسبة التضخم ولسنوات طويلة ثابته لا تتجاوز 1%. إلا أن زيادة معدلات الإنتاج، وارتفاع أسعار النفط أدت إلى زيادة الإيرادات السنوية بشكل كبير.
الجزء الأكبر من تلك الإيرادات وجهت نحو قطاعات التنمية، والبنية التحتية على وجه الخصوص، مما أدى إلى ارتفاع معدلات السيولة وزيادة الطلب على السلع والخدمات التي تجاوبت سريعاً مع المتغيرات المالية الطارئة.
أضاف البوعينين: زيادة الإنفاق الحكومي أدى، بشكل مباشر، إلى تسخين أرقام التضخم ورفعها إلى ما فوق 1% بعد أن استقرت ولسنوات طويلة تحت ذلك الرقم.
ومنذ ذلك التاريخ، وأرقام التضخم تسجل زيادة مطردة حتى يومنا هذا، حيث بلغت فيه نسبة التضخم الرسمية لشهر أكتوبر 2007 م 5.35% الإنفاق الحكومي لم يكن السبب الرئيس لارتفاع معدلات التضخم السعودية، ولكن هناك بعض المسببات الأخرى التي لا تقل أهمية عن الإنفاق الحكومي ومنها على سبيل المثال لا الحصر: السياسة النقدية، انخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي عالمياً، التضخم العالمي، وضعف الرقابة على السلع والخدمات.
الاطمئنان تجاه التضخم!
السياسة النقدية تمثل ولاشك مكابح الاقتصاد لمواجهة التضخم, سألت البوعينين وبكل صراحة وهو المصرفي المتابع لحركة هذه السياسة كيف يقيم أدائها خصوصاً وأن موسسة النقد مافتئت تصرح للإعلام دائماً أن نسب التضخم تحت السيطره؟ فأجاب قائلاً: صحيح محركي السياسة النقدية السعودية كانو ينظرون باطمئنان إلى أرقام التضخم المحلية، ويؤكدون بين الفينة والأخرى على أن أرقام التضخم تحت السيطرة، ولا داعي للقلق حيالها. ولكنهم تناسوا أن التضخم لا يمكن التعامل معه وفق الأهواء والتطمينات بل إنه يحتاج لكثير من الجهد والعمل المنظم، ومراجعة السياسات النقدية بصورة مستمرة، وتطبيق أدواتها بصرامة من أجل إبقاء نسب التضخم عند مستوياتها المتدنية أو المقبولة نسبياً على أقل تقدير، وهو ما لم يحدث مبكراً.
فك الارتباط!
لم يكن لي أن أتجاوز قضية الساعة والتي تحدث حولها الجميع، وحدا حتى بطلاب المدارس والكهول والعجائز أن يطرحوها كحل للمشكلة وهي فك ارتباط الريال بالدولار، ورغم أن هذا الأمر يمكن قراءته اقتصادياً وتحديد نقاط قوته من ضعفه إلا أنه أكثر تعقيداً من أن يطرح في سياق الرأي المقتضب دون دراسات معمقة ووافية وحتى الآن لم تصدر هذه الدراسات من موسسة النقد أو أي جهة أخرى أو قد تكون موجودة ولكن لم يتح للكثيرين ممن يناقشون هذا الموضوع المهم الاطلاع عليها.
طرحت الأمر على البوعينين فقال: سأكون واضحاً هنا.. ارتباط الريال السعودي بالدولار قلل من فرص المناورة لدى مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي)، وجعلها تقبل مضطرة بعض السياسات النقدية الفيدرالية التي لا تتلاءم مع احتياجات الاقتصاد السعودي. وهو ضريبة ربط العملة المحلية بالعملات العالمية.
الأضرار الناجمة عن ربط الريال بالدولار لم تتوقف عند حد تطبيق سياسة نقدية مشابهة للسياسة النفدية الفيدرالية بل تعداها إلى زيادة معدلات التضخم من خلال (التضخم المستورد) الذي نجم عن ضعف الدولار عالمياً، وبالتالي ضعف الريال أمام العملات الرئيسية الأخرى.
أكمل البوعينين: هذه المعادلة النقدية المعقدة أدت إلى زيادة حادة في نسبة التضخم المحلي، وقللت من فرص مناورة مؤسسة النقد العربي السعودي محلياً للتغلب على معدلات التضخم المرتفعة. حقيقة وقبل الانخفاض الحاد في أسعار صرف الدولار، ومع تطابق حركة الاقتصاد السعودي والفيدرالي الأمريكي، لم تكن هناك مشاكل معقدة حيال نسب التضخم المحلية، فالسياستان النقدية الأمريكية، والسعودية كانتا متطابقتين لتطابق الظروف الاقتصادية.
إلا أن تغير الأوضاع، وبداية ظهور علامات الركود في الاقتصاد الأمريكي فرض على السلطة النقدية الفيدرالية مراجعة سياستها النقدية لتتواءم مع متغيرات الظروف.
فحين بدأت السلطات النقدية الفيدرالية بخفض سعر الفائدة والضغط على الدولار عالميا وسُمح له بالنزول إلى مستويات قياسية خطرة. في الوقت نفسه، كان الاقتصاد السعودي يشهد نمواً قوياً، وازدهارا غير مسبوق خاصة في العامين 2006، 2007. ذلك النمو أدى إلى رفع معدلات التضخم ما يستدعي تدخل السلطات النقدية للتعامل معه بحزم قبل استفحاله.
سألت البوعينين: هل إشارة الاختلاف بين الاقتصادين السعودي والأمريكي لم تكن واضحة لمتخذي القرار النقدي فأجاب: أطلقت إشارة الاختلاف الأولى بين الاقتصادين الأمريكي والسعودي. فبدأ الفيدرالي الأمريكي في سياسته النقدية المتوائمة مع متطلبات الركود الاقتصادي بغض النظر عن سياسات الدول المرتبطة اقتصادياً بالدولار الأمريكي. وهو أمر طبيعي لا غرابة فيه، واضطرت السياسة النقدية السعودية إلى مجاراته ما أدى إلى حرمانها من أهم أدوات السيطرة على معدلات التضخم المحلية.
المبرر الخارجي!
سألت البوعينين: إذن يمكن أن يكون المبرر الخارجي مقبولاً حول أسباب التضخم؟ أجاب قائلاً: التضخم العالمي كان له دور رئيس في رفع أسعار السلع والخدمات محلياً، إلا أن حركة الأسعار المنفلتة من عقالها أدت إلى انتشار سرطان التضخم حتى في السلع المنتجة محلياً. أسعار العقار، وإيجارات الشقق والمنازل شهدت ارتفاعات قياسية زادت في مجملها عن نسب التضخم العالمي، والمحلي مجتمعتين. وهو ما يقود إلى ذكر سبب آخر من أسباب تضخم الأسعار وهو (ضعف الرقابة الرسمية). فضعف الرقابة أدى إلى تصاعد الأسعار بشكل كبير وغير مبرر في كثير من الأحيان، خاصة المواد الغذائية والإنشائية.
كثير من السلع المنتجة محلياً تباع في الأسواق الخليجية بأقل من قيمها في الأسواق السعودية وهي دلالة واضحة على ضعف الرقابة المحلية.
إعادة تقييم الريال
القيمة العادلة مصطلح أصبح من الشيوع إلى درجة أن كثيراً من الاقتصاديين والإعلاميين يركز على قيمة الريال العادلة مقابل الدولار، وينادون برفع قيمة الريال مقابل الدولار كأحد الحلول المتاحة لمعالجة التضخم. والحقيقة أن أي ارتفاع للريال مقابل الدولار يفترض أن يؤدي إلى زيادة قوته الشرائية من الناحية النظرية.
سألت البوعينين حول ذلك فقال: إن الواقع يقول غير ذلك. على أساس أن رفع قيمة الريال في مثل هذا الوضع الاستثنائي الذي تشهد فيه نسب التضخم ارتفاعاً حاداً ربما لا يحقق النتيجة المرجوة. فالتجار أكثر دقة ومراقبة لمتغيرات أسعار الصرف وهم لن يسمحوا بمرور مثل هذه الفرصة دون أن يحققوا منها مكاسب مالية. فالأسعار المرتفعة لن تتجاوب مع متغيرات سعر الصرف على المدى القريب.
أكمل البوعينين: في الكويت، وبعد إعادة ربط الدينار الكويتي بسلة عملات، والسماح له بالارتفاع أمام الدولار لثلاث مرات متتالية، بقيت الأسعار لديهم على حالها دون تغيير.
وهذا أحد عيوب الاستخدام المتأخر لأدوات السياسة النقدية. تخلى البنك المركزي في 20 مايو من العام الحالي عن سياسة ربط سعر الدينار حصرياً بالدولار أدى إلى رفع سعر صرف الدينار مقابل الدولار الأمريكي منذ ذلك الحين بنحو 3.9%، إلا أن معدل التضخم واصل ارتفاعه ليصل عند مستوى 5% في شهر يوليو.
سرطان التضخم لم يسمح لإرتفاع الدينار الكويتي أمام الدولار بتحقيق مكاسب حقيقية على أرض الواقع فالسلع المرتفعة لم تعاود الإنخفاض لتغير أحد مسببات التضخم بل واصلت في ارتفاعاتها القياسية. وهنا تظهر أهمية التعامل السريع مع معدلات التضخم من خلال الأدوات الشاملة وليس أحادية التأثير، إضافة إلى وجوب التعامل مع قطاعات الاقتصاد ككتلة واحدة على أساس أن العناصر الاقتصادية عادة ما تكون لا يمكن الفصل بينها.
سألت المحلل الاقتصادي فضل البوعينين: ثمة طرح متزايد حول إيجابيات كثيرة تنتظر الاقتصاد المحلي وتنعكس مباشرة على المستهلك المحلي فيما لو تمت إعادة تقييم سعر صرف الريال مقابل الدولار الأمر الذي سيزيد قوته الشرائيه ويفترض أن يؤدي إلى خفض تكلفة الواردات من دول الاتحاد الأوروبي وآسيا وغيرها من الدول مما سيخفض أسعار المنتجات في السوق المحلية.. إلا أن هذه الصورة المبسطه قد لا تعبر عن الواقع بالضرورة فهل ثمة جانب سلبي لم يلتفت إليه أحد في خضم هذا الطرح الإيجابي حول إعادة التقييم؟ أجاب البوعينين: صحيح.. فما ذكرته من إيجابيات لا يمكن الجزم به مع ارتفاع نسب التضخم المحلية والعالمية، أي أن الأسواق المحلية لا تتجاوب كثيراً مع هذه الإصلاحات، بل تصر دائماً على البقاء عند أسعارها السابقة وإن تغيرت أسعار الصرف. والدليل أن المنتجات المستوردة في العامين 2005، و2006 تباع حالياً في الأسواق المحلية وفق أسعار الربع الثالث من العام 2007 على الرغم من أنها تقل عن أسعارها الحالية بنسب تتجاوز 40 في المائة في بعض الأحيان!!.
وهنا يأتي الدور الرقابي وأثره في ضبط الأسعار! أكمل البوعينين: هناك أيضاً سلبيات في إعادة التقييم فمنها أن رفع قيمة الريال مقابل الدولار تعني انخفاض الإيرادات النفطية بالريال السعودي، على أساس أن معظم الدخل الحكومي إنما يتأتى من النفط المقوم بالدولار الأمريكي. ولكن يمكن أن تعالج هذه السلبية بالذات من خلال زيادة معدلات الإنتاج خاصة وأن هناك طلباً متنامياً على النفط، ودعوات دوليه لتوفير الاحتياجات النفطية.
أيضاً بالمقابل رفع سعر الريال يؤدي إلى خفض قيمة الأصول السعودية خاصة في الأسواق الأمريكية التي تعاني أصلاً من أزمة الرهن العقاري حالياً. كما أنه يمكن أن يؤثر سلباً وإيجاباً في أصول البنوك السعودية، واستثماراتها بحسب نوعيتها، وهو ما يمكن أن يعرض المصارف السعودية إلى تغيرات مؤثرة لم تكن متوقعة، وبالتالي ينعكس التأثير الإيجابي أو السلبي على المستثمرين، والمودعين (المواطنين).
واصل المحلل الاقتصادي استعراض السلبيات قائلاً: ثمة أمر هام أيضاً وهو أن رفع سعر صرف الريال يؤدي إلى رفع أسعار الصادرات البتروكيماوية التي تمثل الصادرات الأهم بعد الصادرات النفطية. أما الصادرات الأخرى فهي أقل بكثير من أن تحتسب ضمن هذه المعادلة. كما يمكن أن يقود قرار كهذا إلى تعديلات مستقبلية وهو أمر لا تحبذه الأسواق العالمية والمحلية أيضاً، وربما أثر في المصداقية والثقة على المدى القصير.
ورفع سعر الدولار قد يؤدي إلى إحداث خلل في عقود الشركات العالمية المقومة بالدولار، والتي بدأت في تنفيذ مشروعات ضخمة تزيد في مجملها عن 200 مليار دولار.
العلاج!
سألت فضل البوعينين حول طرق العلاج.. ما دامت تواجه خيار إعادة تقييم الريال هذه الصعوبات أو على الأقل إليه الترجيح بين الإيجابيات والسلبيات فقال: كما أسلفت سابقاً أن مكونات الاقتصاد لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا يمكن التعامل معها بأحادية التأثير، فالنتائج المباشرة قد تحدث نتيجة أسباب غير مباشرة والعكس صحيح. لذا يُفترض أن يتم التعامل مع المشكلات الاقتصادية وفق الحلول الشاملة وليس الأحادية.
ومن هنا يُعتقد أن هناك بعض الحلول التي يمكن من خلالها السيطرة على معدلات التضخم والحد منها، والتخفيف عن كاهل المواطنين موجة الغلاء الحالية، ومنها:
- خفض الإنفاق الحكومي وتقنينة بما يتوافق مع قدرة الاقتصاد على تحمله، والتعجيل في تنفيذ مشروعات التنمية الحالية وإنجازها في أسرع وقت للتقليل من زمن التضخم المتوقع بقائه ما بقيت هذه المشروعات تحت التنفيذ. ومن جهة أخرى يؤدي إنجاز مشروعات التنمية إلى استيعاب معدلات التضخم الحالية وإذابتها من خلال زيادة الإنتاجية، وتوفير الوظائف، واتساع قطاعات الاقتصاد التي يمكن أن تساعد في خفض معدلات التضخم الحالية.
- الاستغلال الأمثل لأدوات السياسة النقدية، والبدء في وضع إستراتيجية نقدية طويلة المدى يمكن من خلالها تجاوز المفاجآت والأزمات الحادة. المراجعة الدقيقة للسياسة الحالية يمكن أن تساعد كثيراً في لجم معدلات التضخم في مدة زمنية قصيرة.
- تشديد الرقابة على السلع والخدمات، ونشر ثقافة المستهلك التي تقود في أحياناً كثيرة إلى السيطرة على الأسعار.
- خفض الرسوم الحكومية.
- دعم السلع الأساسية، الغذائية، الطبية، والإنشائية على وجه الخصوص.
- رفع الحد الأدنى للأجور إلى 4000 ريال، وتخصيص مكافآت سنوية مقطوعة للمتقاعدين، وللمستفيدين من الضمان الاجتماعي.
- منع إعادة تصدير المواد من خلال المنافذ، خاصة المواد الغذائية والإنشائية.
ومنع تصدير أي سلعة منتجة محليا في حالة تغطية الطلب المحلي لمعدلات الإنتاج منعاً لتفاقم أسعارها.