الجهة الوحيدة التي لا تحسد في اتون التضخم هي وزارة التجارة والصناعة لأن أي تعريف للتضخم السائد في ذهن المستهلك هو ولا شك وليد هذه الوزارة التي لم تحسن تربية السوق - في نظره - أضحى فاسدا وأفسد معه التكلفة المعيشية على الناس... هذه الرؤية المبسطة للتضخم في أذهان الناس هي ما يجعل رأي وزارة التجارة والصناعة على قدر كبير من الأهمية في قراءته أو تحليل أسبابه، رغم أن أسباب التضخم متعددة فالطلب، والعرض، والتكلفة، والتوسع النقدي، والمالي كلها وقود للتضخم يمكن أن تذكي جذوته وسنتطرق فيما يلي لجانب العرض الذي يمس الوزارة مباشرة لنقرأه من خلال أحدث تقارير الوزارة - للربع الثالث من هذا العام - التي تصدرها ردا على محاصرتها باتهامات التضخم..قراءة التقارير مهمة شاقة والاقتصادية أكثرها مللا لأنها تفتقد إلى التشويق!! لم أشأ أن أذهب إلى وزارة التجارة لأخذ رأيها حول موضوع التضخم لثقتي أن التقارير الاقتصادية التي أصدرتها يمكن أن تقول الكثير ويمكن أن يقرأ فيها ما لا يستطيع موظف بيروقراطي الإفصاح عنه بشرط الربط بين محتوياته!!
تقول الوزارة إنها تتابع الأسواق بصفة دورية وتقوم برصد شامل للسلع الغذائية والتموينية يشمل التأكد من توفر الكميات الكافية في الأسواق المحلية من السلع الغذائية والتموينية والتي تتحمل الوزارة مسؤولية نقصها ما يدفع العرض إلى التخلف عن ركب الطلب فتحدث الفجوة التي ينفذ منها التضخم لكن الوزارة تنفي حدوث ذلك!! فأين الخلل!!...استوقفني تفسير الوزارة لارتفاع أسعار الأرز الأمريكي والذي أشار التقرير أن ارتفاعه في فترة القياس يأتي امتداداً لارتفاع أسعاره منذ بداية عام 1428هـ نتيجة لارتفاع تكلفة استيراده والتي وصلت إلى حوالي (35%) لارتفاع الطلب عليه وقلة المعروض منه.
وعند تطبيق المفهوم الاقتصادي لهذا الواقع يصبح ارتفاع التكلفة سبب لإحجام توسع العرض فيه من قبل التجار وعليه فإن بقاء مستوى الطلب عليه دون تغيير بمعنى عدم التوجه إلى البدائل الأخرى الأقل سعراً يعني بالضرورة ارتفاع سعره أو بقاءه مرتفعا على أقل تقدير!! ولا يمكن تحقيق التوازن فيه إلا من قبل المستهلكين أنفسهم بتطبيق نظرية الرشد الاقتصادي التي تعني تحقيق المنفعة القصوى من السلعة أو الخدمة بأقل سعر!! استوقفني في التقرير أيضا ما ذكرته الوزارة من تأكدها من كبار الموردين عن تكلفة الاستيراد..وقد حملت هذا السؤال إلى أكثر من مورد في مجالات تجارية عديدة أكدوا لي جلهم أن لا أحد يقدم التكلفة الحقيقية لأسباب عديدة فحتى لو لم تفرض أي نسبة من الجمارك بافتراض الإعفاء على السلع المستوردة فإن المستوردين يسعون إلى إخفاء الأرقام الحقيقة من أجل تعظيم الأرباح وعدم الكشف عن جاذبية القطاع أو السوق الذي ينتمون إليه!! فكيف يتم التأكد من ذلك لا أعلم لكن التاجر يملك ألف حيلة وحيلة إذا أراد التلاعب!! غير أن لغة الاقتصاد تصدح بأن سوق المواد الغذائية لابد أن تكون مفتوحة ولجميع الخيارات وعدم وضع أي حواجز أو قيود دون استيراد الغذاء سوى الصحية منها - التي تضمن سلامة المستهلك - كفيل بتصحيح التلاعب وكشف المتلاعبين وجعل (طبق) التوازن يأخذ مكانه من طاولة السوق فهل تضع الوزارة حواجز دون العرض!! سألت وكيل وزارة التجارة للتجارة الداخلية عن ذلك أجاب لا أحد يضع العراقيل أمام المستوردين ومن يستورد الطعام وأصناف الأغذية لا يجد أي معوق ولا يمكن أن يمنعه أحد!!بعد إجابة الوكيل ألححت في السؤال إذن أين الخلل وهل يعقل أن نشهد هذه الارتفاعات المتوالية رغم أن السوق السعودي هو الأضخم مما يساعد على استيراد كميات كبيرة تساهم في تخفيض التكلفة..المقارنة بين أسعار الرز في دول مجلس التعاون توضح أن سعر الأرز الأمريكي في المملكة يعد الأقل سعرا بين الدول الخليجية مما يجعل الأمر مختلفا عن ما يعتقده البعض خصوصا أن الرز يعد الوجبة الرئيسة رغم أن هذه المقارنة تمت قبل إقرار الإعانة الحكومية التي أقرها خادم الحرمين الشريفين بواقع 1000 ريال لطن الأرز ورفع إعانة حليب الأطفال من 2 ريال إلى 12 ريالا لكيلو حليب الأطفال والتي ستساهم بتخفيض ملموس في أسعار هاتين السلعتين الحيويتين.
الأرز الهندي وهو النوع المفضل للمواطنين والأكثر أهمية بررت وزارة التجارة ارتفاع أسعاره خلال الربع الثالث من هذا العام استنادا إلى أسباب عديدة بلغت الثمانية كلها خارجية باستثناء سبب واحد أرجعته التجارة في تقريرها إلى ارتفاع أجور النقل البري الداخلي في المملكة بسبب إلزام وزارة النقل لأصحاب الشاحنات بالحمولات المقررة على الطرق..
غير أن التقرير لم يشر إلى نسبة هذا العامل في ارتفاع سعر الأرز خلال الفترة المشار إليها.من الملاحظات التي يخرج القارئ للتقرير بها تأكيد الوزارة على أن ارتفاعات الأسعار نتيجة لمصدر استيرادها وأن عددا من السلع يعد ارتفاعها طبيعيا في ظل المتغيرات الخارجية لكن الجزئية التي أكد التقرير عليها هي توافر الخيارات البديلة للمستهلك لجميع السلع الغذائية والتموينية سواء المستوردة أو المحلية الأمر الذي يضمن توازن الأسعار..وكأن الوزارة تلمح لدور المستهلك لفرض إرادته في السوق من خلال التحول عن السلع التي تشهد أسعارها ارتفاعا إلى السلع البديلة الأخرى إلا أن هذا الطرح يصطدم بقناعة المستهلكين أن البدائل تواجه ذات الارتفاعات بسبب غياب الرقابة التي يعتقدون أن الوزارة لا تزال مقصرة تجاهها..أحمد السريع قال لي حين سألته عن دور الوزارة في الرقابة: لا دور لها ولا يمكن أن يكون لديها دور ملموس في ظل النقص الشديد للمراقبين قال لي بلهجة شعبية ساخرة (بالله عليك هل يستطيع فريق رقابة لا يتجاوز عشرات الإصبع الواحدة مراقبة محلات تتجاوز الآلاف!!)مستهلك آخر قال لي: لا يمكن أن نحقق الرقابة دون مشاركة الجميع فيها وخصوصا المستهلكين لابد أن نبلغ عن أي استغلال أو عملية نصب أو احتيال.
الملاحظ أن أكثر الانتقادات التي وجهت لوزارة التجارة هو عدم الظهور الإعلامي للحديث عن التضخم وأسباب ارتفاع الأسعار، رغم أنها دائماً ما تصر على إصدارها للتقارير التي توضح واقع السوق، لكن لسان حال المستهلكين يقول: أصدرت الوزارة التقارير وسكتت عن الكلام المباح.