مما اقتضته حكمة الرب تعالى أن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، وأن الفراغ يُملأ بما سبق إليه، من طَيِّبٍ أو رديءٍ، ومن هذا الباب يكون التخطيط والإعداد للمستقبل، كما نجده في قصة يوسف عليه السلام في الجانب الاقتصادي ومواجهة المجاعة، وما نجده في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكثير من الأحاديث المتعلقة بأخبار الزمان، وما يقع فيه، مما يسميه العلماء بالفتن..
|
أو أشراط الساعة، أو أعلام النبوة، أو النهاية..إذا صح لنا أن نتوقع شيئاً من التراجع في حدة العنف في البلاد الإسلامية، ومنها السعودية، فهذا يملي علينا بالضرورة أن نتعامل مع الموقف بمسؤولية.
|
لقد وجهت جواباً عن أحد الأسئلة، خطاباً لأسامة بن لادن في مطلع شهر رمضان، ورأيت بعضهم يقول: لماذا الآن؟
|
وكأنهم لم يطلعوا على معالجة هذا الموضوع بما يزيد على ثلاثمائة مادة إعلامية، وعبر عشرات اللقاءات التلفزيونية، كانت بدايتها إدانة أحداث سبتمبر بمقال منشور بعدة لغات، وفي اليوم الثاني من حدوثه، بتقرير مخالفته للشريعة، ومعاندته للمصلحة العامة للمسلمين، وكأنهم لم يسمعوا إلى محاضرة مسجلة أُلقيت على الأئمة والخطباء في ينبع، أيام الأحداث الأليمة منها، وكانت حديثاً صريحاً ومباشراً عن تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، غير أن من الحق أن نفوساً كثيرةً قد يغلبها اللجاج والإصرار على بعض الرأي، فلا يمكنها من الاستماع للرأي المخالف، ومع مرور الزمن، وكثرة المعارضات، وتجاوز المرحلة يصبح الشاب أكثر استعداداً للفهم والحوار والأخذ والرد، وهذا يدعو إلى تنويع القول والطريقة؛ اقتداءً بمنهج القرآن الكريم، وإدراكاً لأهمية وصول الرسالة إلى متلقين آخرين، لم تصلهم في وقت مضى، وأهمية وصولها في جو يسمح باستيعابها، والتعاطي الرشيد معها.
|
إن العنف الذي انفجر هنا وهناك يتذرع بحجج شرعية أساء فهمها، أو أساء تنزيلها على الواقع، ولا مخلص للمجتمعات الإسلامية كافة، ومجتمعنا السعودي على وجه الخصوص من دوامة العنف، ودوائره المتتابعة إلا بخطاب إسلامي ناضج، يقوم على الفهم الصحيح للنص، ويخاطب الروح الإسلامية الحية، ويتطلع للتنمية والبناء الحياتي، ويحاول المشاركة في المشروع النهضوي الحضاري، بترشيده وتوجيهه أولاً، وبحفز الناس للمشاركة فيه، واستثارة روحهم الدينية من أجله ثانياً.
|
هذا الخطاب ضرورة حياتية قبل أن يكون واجباً شرعياً، وهو أساس للاستقرار السياسي والأمني، والترابط الاجتماعي، والنمو الاقتصادي، والتحصيل المعرفي، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: إن هذا المعنى يجب أن يكون محل إجماع من كافة الأطياف المتطلعة للمستقبل الأفضل.
|
إنه ليس تسويقاً لأشخاص أو رموز بعينها، ولا ترسيماً لحضور جماعة أو تيار، لكنه وعاء يجب أن يتسع لكل أبناء البلد، ويستوعب اختلافهم، ويجعل الرحمة والحب، والتسامح والتغاضي، وحسن الظن والتعاون على الخير أساس علاقتهم، ويعزل أفكار الإقصاء والمصادرة والاتهام والتخوين والتشكيك، وأحب أن أقول: يتحدث بمثالية، ويتعامل بواقعية.
|
عمل يستوعب الرسمي والشعبي، ويحفظ حق الاختلاف، ويسمح بتصدر الاعتدال والوسطية من حيث هي صفة، لا يعبر عنها فرد، ولا تحتلها جماعة، ولا تتزعمها مدرسة، والوسطية لا تلغي التنوع، بل ولا تلغي قدراً من التشدد، أو قدراً من التساهل يكون موجوداً، ولكن لا يتصدر المشهد، ولا يختطف الجو العام.
|
وهذا معنى شريف يدل عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ هَذَا الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ هَذَا الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا .. )، (وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا).
|
فهناك التسديد، وهناك المقاربة، وهناك الجادة الوسط، وإلى جوارها المشادة.
|
ولكي يتسم هذا الخطاب بالمصداقية يجب أن يتعالى عن الضغوط التي تؤثر في سداده وصوابه، سواء كانت ضغوطاً من فوقه أو من تحته، وسواء كانت ضغوطاً اجتماعيةً جماهيريةً، أو كانت ضغوطاً سياسيةً سلطويةً، وهذا لا يعني تجاهل الواقع أو العماية عنه، ولا التحضير للصدام، ولكنه يعني استقلالية الرؤية.
|
والحق أن الخطاب الإسلامي القائم لا يملك هذه الإمكانية بحكم تاريخه وممارسته الواقعية، ولكنه يمكن أن يتأهل لها إذا توفرت إرادة الأطراف المؤثرة في المجتمع على هذا الهدف، وتنادى المخلصون من صناع القرار، ومن قادة الرأي، ومن رجال العلم والفقه، إلى هذه المهمة، وتعاقدوا عليها مخلصين لوجه الله تعالى مقصدهم، متجاوزين عقدة المصالح الذاتية، مستمسكين بالأمل، ولولا الأمل لبطل العمل.
|
إنه حلم جميل أن ننخرط في مشروع واحد تتوافر عليه همم العاملين، كل في حقله وميدانه، تاركين حركة التثبيط والتخذيل والمشاغلة وراء ظهورنا، مستلهمين من إيماننا بالله، وقراءتنا للتاريخ، ورؤيتنا للحاضر روحاً تشدنا إلى المستقبل المنشود:
|
مُنىً إِن تَكُن حَقّاً تَكُن أَحسَنَ المُنى |
وَإِلّا فَقَد عِشنا بِها زَمَناً رَغدا |
|