قدم لنا القرآن الكريم بتعبير بالغ الجمال حكمة عظيمة الشأن في الآية التي قال فيها عز وجل، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}والحكمة تقول أنك عندما تتخلى عن مبدأ التعامل بالمثل في علاقاتك مع الآخرين تستطيع أن تحول الأعداء إلى أصدقاء يشدون أزرك ويساندونك. وقد تجسدت هذه الحكمة في واحد من أعظم المواقف التي شهدتها الإنسانية على مر العصور، عندما وقف الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة وخاطب أهل الكفر الذين آذوه وأخرجوه منها، قال لهم ماذا تظنوني فاعلاً بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم! فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
إنها فضيلة التسامح، تلك التي لم يعد لها تواجد, واضح في هذا العصر. فضيلة غابت وغاب معها أحد الأسس عظيمة الشأن في بناء العلاقات الوطيدة والإيجابية بين الناس. وإذا كنا في أمس الحاجة الآن إلى إعادة اكتشافها من جديد ومن ثم ترسيخ مبادئها في جوانب حياتنا كافة، فإن نشرها وتدعيمها في مكان العمل على وجه التحديد يشكل أحد أهم هذه الجوانب، نظراً لأن بيئة العمل تتسم بالتعقيد الشديد، والتفاعل المستمر بين العاملين. هناك أخطاء قد يرتكبها الموظف في حق زميله، أو الموظف في حق رئيسه، أو الرئيس في حق مرؤوسه، الخطأ قد يكون بقصد أو غير قصد، ولكن النتيجة أن هناك طرف يشعر بأن الآخر تجنى عليه، ومن ثم يبدأ الشيطان في ممارسة عمله المعتاد، لتتولد لدى المجني عليه رغبة في الانتقام، يتكرر الموقف كل يوم، وكل يوم تختفي علاقة بناء وتولد علاقة هدم، ليتحول مكان العمل بالتدريج إلى ساحة للتربص وتدبير المكائد. وبخلاف المناخ السيئ والذي ينتج عن غياب فضيلة التسامح في بيئة العمل، هناك تداعيات أخرى تؤثر سلباً على أداء العاملين في المؤسسة، فالشخص الذي يرفض التسامح إزاء تصرفات الآخرين ينشغل ذهنه دوماً بالمواقف والسلوكيات التي بدرت منهم تجاهه، وبدلاً من أن يركز تفكيره في العمل يركز تفكيره في رد الفعل الذي سينتهجه في التعامل مع من أخطأ في حقه، وبدلاً من أن يركز في الحاضر والمستقبل يركز فيما حدث في الماضي، وبدلاً من يسعى إلى تدعيم اتصالاته مع الآخرين بهدف تنفيذ المهام الموكلة منه على أكمل وجه تجده يسعى إلى تقليص اتصالاته حتى لا يضطر للتفاعل مع الآخر. وبدل أن يسعى إلى تقديم النصح والمشورة لزملائه في العمل تجده يتحين الفرصة لإظهار أخطائهم. والنتيجة المنطقية لكل هذا هو انخفاض الإنتاجية وتدني جودة المخرجات، ليتحمل عملاء المؤسسة ضريبة عدم تسامح العاملين في المؤسسة مع بعضهم البعض . للأسف الشديد فإن انتشار قناعات خاطئة بين الأفراد بشأن مفهوم التسامح هو الذي ساهم بشكل مباشر في عدم ترسيخ هذه الفضيلة في علاقاتنا مع بعضنا البعض، فنحن نظن أننا عندما نتسامح مع الآخرين فإننا نعطيهم تصريحاً بأن يكرروا ما فعلوه مرة أخرى وبالطبع الآخرون يظنون كذلك. ونحن نظن أن التسامح ضعف واستسلام وعدم قدرة على رد الفعل الذي صدر عن الآخرين، وهم يظنون كذلك. بالإضافة إلى هذه القناعات الخاطئة فإننا في كثير من الأحيان ننسى أو نتناسى الجوانب الإيجابية في شخصية الآخر وفي سلوكياته تجاهنا، ومن ثم نسير في اتجاه آخر بعيداً عن اتجاه التماس العذر أو العفو عما بدر منه في حقنا.
في مكان العمل أو بعيداً عن مكان العمل أرجو أن تتخلى عن هذه المعتقدات، تركز على محاسن الآخر أكثر مما تركز على مساوئه، لا تتيح لنفسك مساحة يكمن فيها بغضك للآخر فسارع إلى مصارحته بأنك تأذيت وصدمت ولكنك في ذات الوقت لا تريد أن تخسره بل تريد أن تكسبه صديقاً وأخاً لأنه أهلاً لذلك، وأخيراً لا تترد في أن تمد إليه يدك وتعانقه بحرارة عندما يقول لك (أرجوك سامحني).
ssalrasheed@hotmail.com