كثر الحديث عن فك ارتباط الريال بالدولار، بعد موجة الانخفاضات الحادة التي طالت العملة الخضراء على مستوى العالم، كأحد الحلول المطروحة لمعالجة التضخم. يوماً بعد آخر يسجل
الدولار مستويات انخفاض قياسية أمام اليورو، ما ينتج عنه انخفاضاً حاداً في قيمة الريال السعودي. انخفاض الدولار القياسي قاد (جون كلود جونكر)، رئيس منتدى وزراء مالية منطقة اليورو، إلى انتقاد الولايات المتحدة علانية، بسبب صمتها عن انخفاض الدولار مما يؤكد اتهامات الخبراء الاقتصاديين لها (بالارتياح لضعف الدولار).
القادة الأوروبيون أبدوا قلقهم لارتفاع عملتهم الموحدة (اليورو) مقابل الدولار ونتائجه السلبية على قطاعي الشركات والمستهلكين. وأصبحت الشكوى عالمية، مع اختلاف جوهري في أسبابها. انخفاض الدولار الأمريكي يؤدي إلى ارتفاع أسعار الصادرات الأوروبية ويجعلها أقل تنافسية في الأسواق الأمريكية، وأسواق الدول التي ترتبط عملاتها بالدولار الأمريكي، في الوقت الذي تنخفض فيه أسعار المنتجات الأمريكية في الأسواق العالمية وهو ما تبحث عنه السلطات الفيدرالية الأمريكية. انخفاض الدولار الأمريكي يؤثر سلباً على قوة الريال السعودي، والعملات الخليجية الأخرى. انخفاض الدولار الحاد أدى إلى خفض قيمة الريال السعودي عالمياً، وساعد في زيادة حدة التضخم المستورد، وإذكاء نار الأسعار محلياً، مما فتح الباب أمام الحديث عن احتمالية فك ارتباط الريال بالدولار الأمريكي، وإعادة ربطه بسلة عملات، حماية للاقتصاد.
تثبيت مؤسسة النقد العربي السعودي أسعار فائدة الريال بالرغم من خفض البنك المركزي الأمريكي فائدة الدولار زاد من تكهنات فك الارتباط ما بين العملتين أو رفع قيمة الريال مقابل الدولار على أقل تقدير. نفى محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي وجود نية فك الارتباط أو تعديل سعر الصرف الحالي قلل من قوة التكهنات إلا أنه لم يلغها بسبب بقاء المؤثرات الخارجية على حالها، والتوقعات بإجراء البنك الفيدرالي الأمريكي مزيداً من الخفض على أسعار الفائدة مما قد يفرض على السلطات النقدية السعودية مستقبلاً إجراء تعديلات قسرية في أسعار الفائدة، أو سعر صرف الريال ومراجعة علاقته الوثيقة بالدولار الضعيف.
مدير صندوق النقد الدولي، رودريجوراتو، زاد من قوة تلك التكهنات حين قال (إن دول الخليج العربية المنتجة للنفط يجب أن تنتهج سياسة نقدية تتمشى مع ربط عملاتها بالدولار) وقال أيضاً (أعتقد أن العلاقة بالدولار بديل واحد وله عواقبه. هذا البديل يتطلب إتباع السياسة النقدية المتماشية معه).
محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، حمد السياري، أكد (أن بلاده ستقرر ما تراه مناسباً حيال التعاملات مع تغييرات الفائدة على العملة الأمريكية وفق ما يتناسب مع سياساتها النقدية المناسبة لاقتصادها) وهو رفض مبطن لنصيحة مدير صندوق النقد الدولي بإتباعهم سياسة مواكبة للدولار.
سير الاقتصاديين الأمريكي والسعودي في اتجاهين متعاكسين يفرض على مؤسسة النقد العربي السعودي تبني سياسات نقدية مستقلة تمكنها من تحقيق مصلحة الاقتصاد والمواطن السعودي. سعر صرف الريال السعودي، أسعار الفائدة، وعلاقة الريال بالدولار تأتي في مقدمة إجراءات المراجعة الملحة التي تحتاجها السياسة النقدية السعودية، ولكن هل يمكن إجراء تلك المراجعات الشاملة بمعزل عن الدولار الأمريكي وسياسته النقدية؟
نظرياً - واعتماداً على معطيات العلاقة بين الريال السعودي والدولار الأمريكي- يبدو أن الأمر في غاية الصعوبة خاصة مع ولوج الأزمة نفقها الأخير!. يمكن القول بأن مساحة الحرية، أو هامش الحركة الواسع بات ضيقاً مع مرور الوقت، وإضاعة فرص المبادرة ومواكبة المتغيرات العالمية، وتطابق الخسائر المتوقع حدوثها من عملية فك الارتباط، أو الإبقاء عليه!!. يفترض في إستراتيجية السياسات النقدية، والمالية تلمسها للمتغيرات العالمية والمحلية على المدى البعيد وتحديد آثارها المتوقعة على الاقتصاد وعملته المحلية، أي أنها تتفاعل مع المتغيرات الآنية وفق الخطط الإستراتيجية المسبقة بعيدة المدى، وهو أمر لا يمكن الجزم بوجوده محلياً عطفاً على نتائج الأزمات المالية والنقدية التي بدأت في الظهور تباعاً.
لم تكن أزمة الدولار وليدة اللحظة، بل كانت متوقعة منذ أكثر من عقدين من الزمان عطفاً على أداء الاقتصاد الأمريكي، والديون الفيدرالية الضخمة، إلى درجة تنبؤ بعض المختصين الأمريكيين بإمكانية حدوث انهيار شامل للاقتصاد الأمريكي بأسباب الديون المتراكمة. خلال العقد الحالي، وربما قبل ذلك، أثبتت العملة الأمريكية رغبتها الجامحة في الانخفاض مقابل العملات العالمية الأخرى وهو ما حدا بمديري المحافظ الاستثمارية العالمية، والأمريكية على وجه الخصوص، بالتحول من الدولار إلى العملات العالمية الأخرى تحوطاً من الخسائر المتوقعة.
إجراءات التحوط العالمية لم تقابل بإجراءات داخلية مماثلة كان من الممكن أن تساعد في مواجهة أخطار انخفاض الدولار الحالية، والمتوقعة سلفاً، خاصة على الاستثمارات السعودية في الأسواق الأمريكية!!. زيادة معدلات التضخم العالمية، وانخفاض سعر صرف الدولار أثقلا كاهل الاقتصاد والمواطن السعودي المتضرر الأكبر من قضية الاقتصاد المزدوجة.
نعلم أنه من الصعوبة بمكان رفع قيمة الدولار في الوقت الحالي، وهو ما قال به محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي، وأكدته مؤسسة التقييم الإتماني العالمية (موديز)، ونعلم أن هامش الحركة في أسعار الفائدة على الريال أصبح محدوداً جداً ولا يتوافق مع متطلبات كبح جماح التضخم خاصة مع نية البنك الفيدرالي الأمريكي بإجراء خفض جديد على الفائدة الأمريكية، ونعلم أيضاً أن الإنفاق الحكومي بات يلامس سقفه الأعلى هذا العام وهو ما ينذر بحدوث موجات جديدة من التضخم المحلي، ونعلم أيضاً أن رقابة وزارة التجارة على الأسعار باتت في أدنى مستوياتها على الإطلاق، وهو علمُ مؤلم يدفعنا نحو مطالبة وزارة المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي، وزارة الاقتصاد التخطيط، ووزارة التجارة، بإيجاد الحلول الناجعة التي يمكن أن تقضي على التضخم المتنامي، وتعيد للريال قوته ومنعته المستمدة من قوة الاقتصاد، دون المساس بالارتباط مع الدولار الأمريكي؛ وحتى نصل إلى هذه النتيجة نطالب بالنظر في إعادة الدعم الحكومي للمواد الأساسية، تشديد الرقابة، المساعدات المالية لمحدودي الدخل، خفض الرسوم الحكومية المتعلقة بالسعوديين، وتقنين الإنفاق الحكومي وربطه بتحمل الاقتصاد.
f.albuainain@hotmail.com