ينهل ملايين الوافدين المليارات من بلادنا ولا نحسدهم على ذلك فمن يعمل يستحق، بينما يعاني أبناء البلاد من البطالة أو من قلة ذات اليد حيث الرواتب المنخفضة التي لا تكفي لسداد فاتورتي الكهرباء والماء في فصل الصيف فضلاً عن
فواتير الهاتف، لماذا؟ وهل علينا أن نحارب الوافدين في أرزاقهم ونضيق عليه فرص العمل لكي يحصل المواطن على وظيفة كما يطالب البعض؟
من الواضح أن المواطن مهزوم أمام الوافدين في الوظائف الفنية (كهربائي، سباك، ميكانيكي، نجار، صيانة أجهزة وآلات دقيقة، تصاميم فنية ..الخ) والمرفوضة اجتماعياً (غسال، خباز، بنشرجي، زبال، سائق خاص ..الخ)، والسبب معروف حيث يتميز الوافدون بالمهارات العالية نتيجة لما اكتسبه البعض منهم من مهارات في بلادهم والبعض الآخر بما وفرناه لهم من تدريب مجاني في بيوتنا، ونتيجة لإصرارهم على تعلم تلك الوظائف والمهن وفنونها بأسرع وقت ممكن لكسب قوتهم إضافة لانتفاء الرفض الاجتماعي لتلك الوظائف باعتبارهم خارج أوطانهم، فكم من عربي يعمل بوظائف لا يعمل بها في بلاده بأي حال من الأحوال.
كذلك نجد أن المواطن السعودي شبه مهزوم في الوظائف الإدارية العليا والوسطى في القطاع الخاص حيث يفضل المستثمرون الوافد لإنتاجيته والتزامه بسلوكيات العمل وآدابه بعيداً عن الأعذار الواهية والعجيبة أحياناً.
يقول لي أحد مديري الشركات بأن الموظفين السعوديين في رمضان يتأخرون عن العمل المسائي والمقرر الساعة التاسعة لأنهم يصلون التراويح وراء إمام ذي صوت جميل ينتهي من صلاة التراويح الساعة العاشرة مساء، ويقول إن هؤلاء لم يعلموا أن العمل عبادة وأنه من بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له، ويقول آخر ذو شركة تصنف ضمن شركات الأعمال الصغيرة بأنه لا يوظف إلا سعودياً وأنه يعاني الأمرين من كثرة غيابهم وأعذارهم وضعف إنتاجيتهم وإضاعتهم للوقت لدرجة أنه يفكر جدياً بالتخلي عن هذا المبدأ الذي كلفه الكثير من الجهد والتعب والمعاناة.
أما المهارات التي تتمتع بها الموارد البشرية السعودية فحدث ولا حرج فمن ضعف في القدرة على البحث والتفكير (نتيجة تعليم الحفظ والتلقين الذي نتميز به في مدارسنا) وضعف باللغة الإنجليزية لغة العصر والعلوم والمراجع إلى الضعف الشديد حتى في اللغة العربية حيث ضعف القدرة على كتابة موضوع متكامل قابل للقراءة، أقول أما هذه المهارات وغيرها فحدث ولا حرج.
الحكومة أيدها الله تصرف المليارات سنوياً (حوالي 30% من ميزانية الدولة تذهب للتعليم العام والمتوسط والعالي) لنحصل على هذه المنتجات البشرية المتواضعة التي تحتاج لمليارات أخرى لتأهيلها. يقول لي أحد أولياء الأمور إنه صرف على ابنه حوالي 50 ألف ريال على مدار سنتين لتعليمه اللغة الإنجليزية، لماذا هذا التبديد الهائل للثروة؟ ماذا ندرسهم وماذا نعلمهم؟ أما آن الأوان أن نبحث بجدية أكبر لمراجعة أسباب هذا الفشل الذريع في إنتاج موارد بشرية قادرة على التفكير والإنتاج والعطاء دون الحاجة للتأهيل من جديد.
أنا شخصياً أعرف سعودياً يعمل في إحدى الشركات مفكر ومبدع وملتزم بالعمل ومنتج بشكل كبير ولديه مهارات عالية جداً في استخدام الحاسب الآلي واللغة الإنجليزية والألمانية وفي كتابة التقارير والبحث والتحليل والتشخيص ذلك أنه درس المرحلة الابتدائية والمتوسطة في ألمانيا وعجز أن يكمل الدراسة في ثانوياتنا فاتجه إلى سوق العمل وهو كما يقول مديره يفوق من يحمل الشهادات الجامعية في بلادنا.
قضية التنمية البشرية قضية هامة وضرورية وملحة في بلادنا وعلاجها لا يحتمل التأخير والأخذ والرد والروتين القاتل على اعتبار أن الدولة التي لا تستطيع - أو تعجز عن - تنمية مواردها البشرية لا يمكنها أن تحقق غاياتها وأهدافها المخططة والمأمولة مهما ابتكرت من وسائل، ذلك أن الموارد البشرية هي وسيلة التنمية وغايتها، فالأمم التي تعاني ضعفاً في الموارد البشرية مصيرها التخلف والخروج من حلبات المنافسة إلى مخلفات التاريخ والأمثلة كثيرة ولا داعي لحصرها.
أما الأمم التي تتمكن من تنمية ثرواتها البشرية عن طريق التأهيل والتدريب المستمر، لإكسابها مهارات التعامل مع كل ما هو جديد يظهر على الساحة من حين لآخر فهي الأمم الأكثر قدرة على التقدم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، لذا فإنني أعتقد بأن الوقت قد حان لصياغة استراتيجية وطنية لتنمية الموارد البشرية السعودية تشتمل على برامج محددة لتنمية هذه الثروة على مدار العقود القادمة، لتستطيع تلك الموارد (العقول) التي تشكل أحد أهم موارد الإنتاج على إدارة الأموال والموارد الطبيعية بالشكل الأمثل الذي يحقق الحياة الكريمة للمجتمع اليوم وغداً دون الإضرار بعناصر البيئة وبحقوق الأجيال القادمة، وأعتقد أن التعليم والتدريب المساران الأهم في تلك الاستراتيجية.
alakil@hotmail.com