صحافتنا الوطنية حاملٌ إعلامي للحقيقة، لذا فهي لا تحتمل أيّة مزايدات ذات مكاسب شخصية، ولا تحتمل في نفس الوقت مهاترات تؤدي بها إلى نكوص ما قبل النهضة!! وهذه كلها إرادات منبعها الالتزام، ولكن شتّان ما بين الالتزام بالحقيقة، والالتزام بإخفاء الحقيقة.
إنّ ما طُرح على أكثر من صفحة، وفي أكثر من مقال، وعبر أكثر من وسيلة إعلامية وطنية، حول مقتضيات الوضع السعودي الداخلي بين الأفق المفتوح والمغلق في الحديث عن (الوحدة الوطنية) والعصبيات القبلية ومظاهرها التي ربطها البعض بأشكال وهيئات وتجمُّعات ومزاين، هو حديث واعٍ لا تنقصه البراهين، ولا الدلائل، بل ولا ينكر مخاطره عاقل .. ولكن الطرح للأسف في بعض ما تم تناوله، كان كمن يحاول أن يحجب نور الشمس براحة يده، فظهرت التناقضات بين المكتوب والواقع الذي لا نبكيه، بل نحاول الانتماء إليه، وهذا الانتماء لا يكون إلاّ بالحقيقة.
إنّ إفرازات العصبيّة القبليّة ليست ويلدة آراء ومقترحات شخصية تعود بنا إلى عزة الإثم في العصر الجاهلي، لكنها مظاهر وتكوينات فرضتها تعقيدات سياسية محرجة، بين خوف الخارج وقلق الداخل، وهي بالتالي تراكمات فتحت مساحة التعبير وحرية الرأي لأفراد على حساب آخرين، وصنعت من فكر الأقلام ديباجة خضراء لحصاد أصفر يخفي الواقع أو يجهله على أقلّ تقدير.
عندما تكون الحقيقة غير الذي نكتبه أو نقوله نحن، فهذا يعني أننا لا نرى لمستقبل أجيالنا إلاّ سراباً يزيدنا وهماً على عطش، حتى يهيّأ لي أنّ الوحدة الوطنية التي يكتب عنها بغير لسان الحقيقة، هي غير المقصودة في المنطق المتعارف عليه، فهل الوحدة الوطنية ونبذ النّعرات الإقليمية هي مدعاة أن تفرد الصحف صفحاتها لكتّاب بعينهم، وتغفل ما يُكتب بيد غيرهم؟ وهي هل مدعاة الملايين التي تنفق على مزاين الأضحيات وتحجب عن معوق بلا تأهيل، أو مريض بلا علاج، أو فقير بلا عشاء؟!
وأعود مرة ثانية لأتساءل: عمّا نكتب عنه؟ وعمّا يكتبون؟ وكلانا يعرف الحقيقة الرابضة وراء خسارتنا لصروح إنسانية، وتقزيمنا لإنجازاتنا حتى صرت - وصار معي الكثير - يرى أنّ المدح جلد للذات، وأنّ هجوم ومكائد أعداء الداخل علينا ليست إلاّ نوعاً من النقد الهادف البنّاء!
الوحدة الوطنية ليست آراء قابلة للنقاش في مصائر وضمائر الشعب، وليست مجالاً مفتوحاً ليعرض كلٌّ منا قدرته في سوق مفردات اللغة .. إنّها واقع لا بدّ أن يُعاش في تكافؤ الفرص والعدالة ومحاربة الظلم، وإزالة الحواجز والعوائق، وترتيب الأولويات على أُسس ومعايير الكفاءة لا الإرث القبلي الذي تتبدّل ولاءاته بتبدُّل السياسات نحوه!!
سبعة وسبعون عاماً من التوحيد هي مثال وأنموذج لفكر أعمق من ميراث القبيلة، وهو أمانة ومسؤولية على عاتق شعب كامل بكل أفراده وأجياله.
الإعلام السعودي جزءٌ حقيقي من مسؤولية الأمانة، لذا فإنّ دوره ليس تصفيقياً ولا تضليلياً، بل هو الدور الأخطر من حيث نسق ارتباطه بالشعب في عالم القرية الصغيرة .. فضائيات وانترنت ووسائل إعلام مختلفة، وأي خلل في هذا الدور يعني أننا لن نميِّز، في ظل التحديات القادمة، عصا موسى من عصا سَحَرَة فرعون!!
القوة تكمن في الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة، والحقيقة هي الواقع المُعاش .. لا تداولات الكتابة على أطلال الماضي وقصور الحاضر الفارهة .. ولنعترف في أول كتاباتنا القادمة، أنّ الوحدة الوطنية لا تكون إلاّ بالعيش الآمن في النفس والمال والأخلاق .. فهل من كاتب عن هذه الأساسيات؟
* الباحث الرئيسي المشرف العام على مركز أبحاث الشرق الأوسط للتنمية الإنسانية وحقوق الإنسان