مما لا شك فيه أن لتوجيه الأب لابنه في شتى مناحي حياته أهمية كبرى وأثر بالغ، خاصة إذا كان الأب ممن منحه الله بسطة في العلم ورجاحة في العقل. وقد حفل أدبنا العربي بنماذج من رسائل الآباء لأبنائهم كانت غاية في التأثير معنى ومبنى. وقد استوقفتني رسالة من مروان بن محمد آخر حكام الدولة الأموية لابنه عبد الله يقول فيها: (ثم اجعل لله في كل صباح ينعم عليك ببلوغه، ويظهر منك السلامة في إشراقه من نفسك نصيباً، تجعله لله شكراً على إبلاغه إياك يومك ذلك بصحة جوارح وعافية بدن وسبوغ نعم وظهور كرامة، وأن تقرأ فيه من كتاب الله تبارك وتعالى جزءاً تردد رأيك في آيه وتزين لفظك بقراءته وتحضره عقلك ناظراً في محكمة، وتتفهمه مفكراً في متشابهه، فإن في القرآن شفاء القلوب من أمراضها وجلاء وساوس الشيطان وسفاسفه، وضياء معالم النور تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون. ثم تعهد نفسك بمجاهدة هواك فإنه مغلاق الحسنات ومفتاح السيئات، وخصم العقل. واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويعترض غفلتك لأنها خدع إبليس وخواتل مكره ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها، واستعذ بالله عز وجل من شرها، وجاهدها إذا تناصرت عليك، بعزم صادق لا ونية فيه، وحزم نافذ لا مثنوية لرأيك بعد إصداره، وصدق غالب، لا مطمع في تكذيبه، ومضاءة صارمة، لا أناة معها، ونية صحيحة لا خلجة شك فيها، فإن ذلك ظهري صدق لك، على ردعها عنك، وقمعها دون ما تتطلع إليه منك، وهي واقية لك سخط ربك، داعية إليك رضاء العامة عنك، ساترة عليك عيب من دونك فازدن بها متحلياً، واصب بأخلاقك مواضعها الحميدة منها، وتوق عليها الآفة التي تقتطعك عن بلوغها، وتقصر بك دون شأوها، فإن المؤونة إنما اشتدت مستعصية، وفدحت باهظة أهل الطلب لأخلاق أهل الكرم، المنتحلين سمو القدر بجهالة مواضع ذميم الأخلاق ومحمودها، حتى فرط أهل التقصير في بعض أمورهم). هذا جزء يسير من تلك الرسالة البليغة المؤثرة، وقد ضمنها كل ما ينبغي أن يفعل وما ينبغي أن يترك من قول أو فعل. ولا شك أن هذا الأسلوب الأدبي الرفيع لا يقدر عليها إلا الجهابذة من الأدباء وممن منحهم الله البلاغة والفصاحة، ولذا فهذه الرسالة في الحقيقة لم يكتبها مروان بن محمد وإنما كتبها على لسانه عبد الحميد بن يحيى الكاتب الذي يعد من أبرز كتاب عصره، وأغزرهم نتاجاً، وكما يقول ابن النديم أنه من سهل سبيل البلاغة للكتاب من بعده.
إن جيل اليوم في أمسِّ الحاجة إلى من ينير لهم عتمات الطرقات التي زادها عتماً هذا الإعلام المفتوح الذي يأتي إليهم بأشكال وصيغ مختلفة وأشدها فتكاً عندما يكون في صيغة التربية والتعليم، وعندما أشير إلى هذه الرسالة فلا يعني بالضرورة أن تكون رسائلنا لأبنائنا بهذا الأسلوب الرفيع وإن كان هذا أمنية وإنما أريد أن أقول أنه يتعين علينا معشر الآباء الرقي بلغة التواصل مع أبنائنا ليكون التأثير أبلغ، واعتقد أن أسلوب الرسائل يعد من الأساليب المؤثرة جداً، أليس كذلك..؟
almajd858@hotmail.com