علي السليم
تتركز حالياً ما نسبته 60% من طاقة تحلية المياه في العالم ضمن منطقة الشرق الأوسط، مما يشير إلى النطاق الواسع للبنية التحتية لصناعة التحلية في هذه المنطقة، لكنه يشير أيضاً إلى النقص الحاد في المياه العذبة في المنطقة.
وحيث إن توافر إمكانية الوصول إلى مصادر ضخمة ومستقرة من المياه هو أمر بالغ الحيوية بالنسبة للنمو الاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، فإنه يتعين أن يظل هذا الموضوع مطروحاً للتداول والنقاش والاهتمام، لما له من أهمية لسكان هذه المنطقة الذين يبلغ عددهم 350 مليون نسمة. فبعد أفريقيا، يأتي الشرق الأوسط في المرتبة الثانية كأفقر مناطق العالم من حيث توافر المياه العذبة للشخص الواحد.
ولقد ترددت على نطاق واسع مقولة إن (الماء هو نفط القرن الحادي والعشرين)، ورغم أن هذا القول يميل قليلاً إلى الإثارة وتضخيم الأمور، إلا أنه قول له مصداقيته التي تستند إلى الواقع. فبعد كل شيء، يمكننا أن نحيا ولمدة غير محدودة من الزمن بدون سياراتنا وطائراتنا، لكننا بالمقارنة نصارع لنبقى أحياءً لمدة تزيد على أسبوع بدون ماء.
ولقد تناولنا موضوع استمرار أزمة المياه في التفاقم، وهو ما يؤدي إلى الاختلال الجوهري في وظيفة الماء وهو: سعره.
الخلاصة النهائية هي أن الماء غير مُسعّر بقيمته الحقيقية، بل بسعر خصم أقل بكثير من قيمته العادلة. ولذلك لا بد من إعادة تقييم اقتصاديات إنتاج الماء وتوزيعه، لأن هذه الاقتصاديات غير ذات معنى وغير واقعية حالياً في معظم أنحاء العالم. فمن الناحية السيكيولوجية، يعتقد مواطنو العالم المتقدم أن الحصول على إمدادات المياه العذبة من خطوط الضغط الرئيسية هو حق مدني مكتسب وليس مجرد ميزة. ونتيجة لذلك، فإن الطلب من جانب المستخدم النهائي ينطوي على قدر مهم من الهدر باعتبار أن المياه مسعّرة بهذا السعر الرخيص. كما يبدي المواطنون حساسية فائقة تجاه الزيادات في السعر والانخفاض في مستوى الخدمة، وهذه الحساسية تجعل من المياه حقل ألغام بالنسبة لأي سياسي يفكر في تناوله بفاعلية، وخاصة إذا كانت الأولوية بالنسبة له هي إعادة انتخابه.
وبالتالي، فإن مؤسسات مصلحة المياه لا يمكنها إعادة النظر في التكلفة الحقيقية للمياه، باعتبار أن غضب الجمهور سرعان ما يدفع السياسيين إلى إجهاض أي سعي من جانب تلك المؤسسات لتحقيق أية عوائد إضافية (أي أية أرباح) على الاستثمار. والأمر الذي يتم تجاهله إلى حد كبير هو أن مثل هذه الأرباح هي أمر مطلوب لغرضين اثنين أولهما إعادة تأهيل البنية التحتية القائمة، وثانيهما الاستثمار في توسيع القدرة على إعادة معالجة المياه وزيادة منطقة التغطية بالإمدادات. يضاف إلى ذلك حقيقة أن السياسة السائدة تقوم على تقديم مساعدات ودعم كثيف لمؤسسات مرافق المياه، وبالتالي تصبح المسألة مستنقعاً من المداولات الساخنة التي تتحول معها فاعلية هذه المرافق إلى مجرد موضوع هامشي.
وهناك وسيلتان اثنتان لإدارة الخلل القائم ما بين العرض والطلب على المياه، فإذا أردنا تجنب الأزمة، بإمكاننا إما أن نزيد العرض أو نخفف من الطلب.
ويمكن تحقيق الزيادة في العرض من خلال عدد من الوسائل. فتطوير تقنيات أكثر فاعلية لتحلية المياه يمثل موضوع اهتمام وتركيز الكثير من البحوث التي تبلغ تكاليفها بلايين من الدولارات. كما أن إدارة مياه الصرف الصحي المستنفدة وإعادة معالجتها تشكّل ناحية أخرى تشهد تقدماً متزايداً، بما يثبت عادة أن هذا المصدر هو أرخص بكثير من عمليات التحلية المباشرة.
أما على جانب العرض، فهناك مبادرات يمكن اتخاذها على مستويات متعددة. على المستوى الفردي، يمكن للفرد أن يبذل حرصاً أكبر بالنسبة لاستهلاك المياه. ويمكن الاقتصاد في الاستخدامات المنزلية المفرطة بعدم ترك صنابير المياه ومرشّات الحمامات مفتوحة، والتقليل من عدد مرات غسيل السيارات، واستخدام نظم التنقيط في ري الحدائق، كما أن زيادة سعر المياه للاستخدامات المنزلية والصناعية والزراعية من شأنها أن تخفف من الاستهلاك أيضاً، بحيث يمكن توجيه المياه إلى الاستخدامات الأكثر حيوية و(المنتجة للقيمة)، ويمكن فرض ذلك من خلال تطبيق نظام عدادات الاستهلاك وتحميل المستهلكين قيمة فواتير وحدات المياه المستهلكة.
وعلى سبيل المثال ضمن قطاع الزراعة، يمكن لنظم الري بالتنقيط، جنباً إلى جنب مع أساليب تقطير بخار الماء، أن تؤدي إلى زيادة إنتاجية المياه المستخدمة.
كما يمكن لمزيج من المبادرات على صعيد كل من الطلب والعرض أن يؤدي إلى وفورات جوهرية في استهلاك المياه وإلى زيادة فاعلية استخداماتها، وبالتالي تقليل الطلب الكلي من المصادر الرئيسية للاستهلاك. ومن اللافت للاهتمام أن زيادة سعر المياه تفتح أيضاً احتمالات وآفاقاً متنوعة تعتبر غير ممكنة في ظل أسعار أقل. وهذا الوضع مشابه للحالة التي يصبح فيها الايثانول إضافة ممكنة إلى النفط لاستخدامه في السيارات عندما تتجاوز أسعار النفط عتبة معينة.
ومن منظور أشمل للمشهد ككل، فإن أضخم صناعة في العالم من حيث القيمة الرأسمالية السوقية العامة هي قطاع النفط، ويليه مباشرة وعن كثب قطاع الطاقة الكهربائية، في حين أن المياه تحتل مرتبة ثالث أضخم صناعة.
ومع قيمتها الرأسمالية السوقية العالمية التي تزيد عن 700 بليون دولار أمريكي، فإن من المفاجئ أن نرى أن صناعة المياه تلقى اهتماماً أقل بكثير على مستوى البحوث مما تستحقه فعلياً. فليس هناك محللون متفرغون في بنوك الاستثمار الأمريكية في الوول ستريت لتغطية صناعة المياه على وجه التحديد، ذلك لأن الماء يصنف عادة مع مرافق الخدمات الأخرى. وهذا النقص في التركيز والخبرة يؤدي إلى سوء فهم كبير لهذا القطاع، ويخلق في النهاية بيئة تتوفر فيها فرص استثمار مقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية بكثير.
ونظراً لطبيعة سلسلة إمدادات المياه وضخامة هيكلها، فإنها تنطوي على الكثير من الصناعات الفرعية. ففرص الاستثمار متوافرة ضمن قطاعات منتجي المواد الكيماوية، والأغطية العازلة، والعدادات، والأنابيب، والمضخات، والصمامات، إضافة إلى شركات معالجة مياه الصرف، وشركات التوزيع، وشركات تكنولوجيا نقاط الاستخدام. فالشركات العاملة ضمن هذه الصناعات الفرعية قد شهدت عمليات استحواذ متزايدة في السنوات الأخيرة، وسعياً متزايداً من قبل الشركات نحو إضافة تقنيات مساندة للحلول الحالية التي توفرها، ونحو توسيع حجم ونطاق خدماتها.
ورغم أن معظم الشركات المرتبطة أنشطتها بالمياه يتم تأسيسها في الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً، إلا أن الطبيعة العالمية الحقيقية لهذا النشاط قد أدت إلى نشوء عدد متزايد من المؤسسات العاملة في هذا المجال في كل من أوروبا، وشرق آسيا وحتى الشرق الأوسط. فقد فازت شركة (هايفلاكس) مؤخراً، وهي مؤسسة سنغافورية لها أنشطة هامة في مجال المياه، بامتياز للبناء والتشغيل في الجزائر بما يشمل الأعمال الهندسية وأعمال التوريد والإنشاء المقدّرة قيمتها بأكثر من 215 مليون دولار أمريكي. كما فازت (فيوليا ووتر) وهي شركة فرنسية رائدة، مؤخراً بعدد من العقود في أنحاء مختلفة من العالم ومن ضمنها عقد بقيمة 1.6 بليون يورو في الصين، وعقد بقيمة 111 مليون يورو في عُمان. وتعتبر شركة فيوليا نجمة شركات المياه في العالم، حيث تقدم خدماتها في 57 دولة منذ ما يزيد على 150 سنة.
وفي الأشهر الأخيرة، كانت صناعة المياه موضوع اهتمام كبير من قبل الصحافة. فبعد منتدى دافوس الاقتصادي العالمي في يناير 2007 وما أبداه من اهتمام مكثف بموضوع تغير المناخ، وفي أعقاب مطبوعة آل غور الجديرة بالفوز بجائزة الاوسكار وعنوانها (الحقيقة غير المؤاتية)، بدأت العجلة بالدوران، وبدأ قطاع الاستثمار يدرك على نحو أفضل فرص الاستثمار في شركات المياه، وبدأت تقييمات تلك الشركات في الارتفاع.
وفي النهاية، لا بد من اتخاذ إجراءات منسقة تؤدي إلى حلول أكثر فاعلية وديمومة. فهذه المسألة المتعددة الأوجه تتطلب حلولاً وسطاً وتفهماً وقرارات ذكية لحلّها، مع أقل درجة ممكنة من الاختلال في وضعنا الاقتصادي والبيئي والاجتماعي القائم.
وفي حين أن الجهل قد يكون نعمة، إلا أنه يجب ألا يظل كذلك لمدة طويلة !!
محلل استثماري أول
بيت الاستثمار العالمي (جلوبل)