من أشنع ما وصفت به الحياة العربية القديمة وأبشع ما رميت به ما يتناقله بعض الدارسين من تعليل غير دقيق لحوادث الحروب في سالف الدهر، وأنها تشن لأتفه الأسباب، وتشتعل بسبب مصرع ناب من الإبل أو من أجل رهان فرس أو ما شابه ذلك.
|
هذا التعليل يلح دائماً على تصوير حياة النزق والطيش ومحدودية الأفق وحدة الطبع وعدم الاستجابة لدواعي الحكمة والروية وما كان العربي دائما في جاهليته على هذه الصور المعتمة، وما كانت أيام العرب رغبة عارمة في العدوان وسفك الدماء لمجرد الرغبة في ذلك، فالحروب الجاهلية يثيرها الدفاع عن الكرامة في أحيان كثيرة، وتدعو إليها أنفة العربي من الذل والإهانة وعدم الاستكانة لخدش الحرمات قال ربيعة بن مقروم في يوم بزاخة مع الغساسنة:
|
طوال الرماح عداة الصباح |
ذوو نجدة يمنعون الحريما |
يضاف إلى هذا أن وقائع العرب لم تكن في معظمها معارك بين أحياء منهم وأحياء أخرى داخل شبه الجزيرة فمن أيامهم ما كان ضد قوى من خارج أرضهم كيوم الصليب وذي قار وكنهل وأضم الترويح وبزّاخة وطخفة. والإطار الأدبي للأيام ينأى بها عن أن تكون وقعات حربية فحسب أو وثائق عسكرية تصور روحاً قتالية مرتبطة بالتاريخ إذ هي صورة لحياة الأمة في شبه الجزيرة العربية ذات صوت إبداعي منبثق من الوجدان وهي ملاحم زاخرة بالثقافة بل هي نهر تصب فيه كافة روافد الثقافة العربية القديمة.
|
حفظت الأيام القيمة الفنية لأدب العرب خلال العصور المتتابعة وحفظت القيمة اللغوية للمفردات باعتبارها أقدم نص أدبي يصل إلينا ونصوصها في الذروة العليا من الأدب، وكل فرد في الأيام يتكلم بشعر وكثير من شعراء العرب لا يعرف لهم شعر إلا في الأيام، والأيام في الأصل روايات شفوية نقلها أبو عمرو بن العلاء المازني عن أشياخ وأعراب أدركوا الجاهلية وجمعها جمعا ميدانياً، وفيها أقدم النصوص الأدبية، ومنها نشأت السير والروايات الشعبية الأسطورية التي تعد امتداداً وتطوراً طبيعياً لها ويبقى اليوم أو الوقعة جزءا من ملاحم النماذج الفنية للأدب في إطارها الواسع.
|
من هنا يبدو أن سيلاً جارفا من الدراسات الأدبية الحديثة التي تتناول الشعر الجاهلي لا تشفي غليل الباحث لافتقارها للأساس اللازم للبحث وهو الاعتماد على أيام العرب التي تقف بنا على المضامين الفكرية للأدب القديم من خلال الخلفية التي تقدمها عن التفريعات العربية والوقعات والتنقلات والهجرات والأحلاف والسلالات والأماكن والمنازل والدارسون للأدب القديم بدون الأيام يسرفون في تقديم الصور البلاغية ورسم الاشكال الفنية بما لا يزيد الغموض عن الحياة القديمة إلا إبهاماً.
|
إذا ذكرت الأيام ذكر معها أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى في عام 209هـ وإذا ذكر أبوعبيدة ذكرت معه النقائض ذلك أن شرحه لها إنما هو مادة أخبار الأيام، وإن كان له كتابان خاصان بالأيام، وأبو عبيدة ممن تحملوا الدراسات العربية شعراً ولغة وأخبارا،ً وقيل في وصفه إنه خدم الثقافة في مجالات أدبية وتاريخية واجتماعية، وله مصنفات لغوية مهمة يأتي مجاز القرآن في طليعتها وأخرى في الخيل، وكان نداً للأصمعي وقيل: إنه كان يبزه.
|
مع ما تقدم شنّع على أبي عبيدة ولعه بتتبع السوءات وولوغه في معايب العرب، ونسب إليه التصنيف في المثالب، وقد رمي بحبه لتصوير المعاني المكشوفة، وقيل: إنه لم يعن بالايام أصلاً إلا من أجل الطعن والثلب والتشويه، وأنه كان أغرى الناس بمشاتم العرب وألهجهم بمثالبهم، وأنه شديد الالتصاق بالهيثم بن عدي الذي كان يُعير أهل الشرف، وعن كتاب المثالب المنسوب إلى أبي عبيدة قيل: إنه نفحة من نفحات الحقد على العرب، وأن مخازي العرب ومساوئهم بدت واضحة جلية في ذلك الكتاب على أن أبا عبيدة لم يعدم من يدفع عنه ما وصم به من الطعن على العرب لا للذب عنه، كما يقول الدكتور نهاد الموسى، وإنما للمعرفة الحقة، وفي سبيل ذلك ورد أن أيام العرب ووقائعهم مادة من مواد علوم أبي عبيدة الكثيرة، وأن هذه المادة وإن كانت تفيض بالمآثر والمكارم فإنه يتخللها ذكر المثالب وعرض المعايب والسوءات، وعلى هذا فالطعن على العرب يأتي عرضاً ولم يقصده أبو عبيدة قصداً.
|
إلى نحو من هذا ذهب الدكتور عادل البياتي الذي قام بجمع وتحقيق روايات أبي عبيدة في الأيام المبثوثة في عدد من المصادر الأدبية والتاريخية ومعجمات البلدان، وألح البياتي في دفع تهمة النيل من أخلاق العرب التي ألصقت بأبي عبيدة وأشار إلى كثرة تصانيفه، وأن من شيوخه أبا عمرو بن العلاء المازني أحد القراء العالم بالقرآن الكريم واللغة والشعر وأيام العرب وناقش البياتي أقوال القدماء والمحدثين في أبي عبيدة منذ أيام نده وخصمه الأصمعي.
|
أما كتاب المثالب فكما نسب إلى أبي عبيدة فقد نسب أيضاً إلى الهيثم بن عدي ونسب إلى النضر بن شميل الحميري، وأظهر من كتب في المثالب ابن الكلبي الذي بالغ في ذلك حتى خصَّ أقواما من العرب بكتب خاصة بمثالبهم ولم يقتصر على كتاب واحد وسواء أصح كل ما نسب إلى أبي عبيدة من الوقوع في المعايب ونبشها أم لم يصح فإن الحط من شأن العرب ظاهرة معروفة لا تنكر، وهي جزء من قدر هذه الأمة المليء بالنكبات، ومن غريب المصادفات أنني كنت أتهيأ قبل سنوات لتقديم محاضرة عن أيام العرب في شرق الجزيرة في نادي المنطقة الشرقية الأدبي فطالعت في جريدة سيارة مقالة لأستاذ جامعي يعلن فيها بصراحة وبملء فيه - لا فض فوه - إن قلبه يخفق لمجون القصاص، وإن نفسه تطرب للمزات الشعراء في المهاترات، وأنه أستاذ في معرفة مكامن المثالب فقلت من على منبر المحاضرة هنيئاً لأستاذ اللغات الحية والميتة بهذه المعرفة!
|
إذا كانت الكتب الأدبية كالأغاني لأبي فرج الأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه وخزانة الأدب للبغدادي ومعجمات البلدان كمجم ما استعجم للبكري ومعجم البلدان لياقوت، وكتب التاريخ كالكامل لابن الأثير قد اعتمدت على روايات أبي عبيدة في أخبار الأيام فإن الباحثين قد ظلوا لآماد طويلة ينسبون شرح النقائض إلى أبي عبيدة إلى أن أبانت بعض الدراسات الحديثة أن جمع النقائض قد تم على يد محمد بن حبيب، وأن الشرح للسكري، وتخلل ذلك روايات كثيرة عن الأيام أدخلت في الكتاب من روايات أبي عبيدة، وهذه الروايات هي مصدر الباحثين في الأيام، ولشدة ارتباطها بتحديد المواقع اعتمد عليها المصنفون في جغرافية شرق الجزيرة العربية (البحرين قديماً) بطريق غير مباشر بمعنى النقل عن النقل.
|
كتاب أبي عبيدة في الأيام كتابان أشار إليهما عدا من تقدم ابن النديم في الفهرست ويضم الأول منهما 1200 يوم والثاني 75 يوما، وهما مما لم يصل إلينا، والذين سبقوا أبا عبيدة واستفاد منهم كما استفاد منهم الأصمعي هم المفضل الضبي (ت 168) والكلبي (ت 146) ويونس بن حبيب (ت 183) أما الذين نقلوا عنه فهم التبريزي في شرح حماسة أبي تمام والأنباري في شرح المفضليات.
|
تنقل أخبار الأيام أيضاً عن ابن الكلبي (ت 204) وله كتاب خاص عن وقائع بني شيبان وأيام شيبان مع يربوع من أبرز أيام العرب، كما تأتي هذه الأخبار في كتب الأمثال كأمثال العرب للمفضل الضبي، ومجمع الأمثال للميداني وكتب التراجم كالموشح للمرزباني والمؤتلف والمختلف للآمدي وكتب التاريخ كتاريخ الطبري والسيرة لابن هشام، وذكرت المصادر إن لبني مازن كتابا خاصا بأيامهم.
|
الأيام هي الوقائع في الاصطلاح العربي من لدن أبي عبيدة معمر بن المثنى أشهر من عني بأيام العرب إلى أن ظهرت الدراسات الحديثة، وسارت على النهج ذاته، وجاء في الصحاح اليوم المعروف والجمع أيام وأصله أيوام فأدغم. قال الأخفش في قوله تعالى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} قال من أول الأيام كما تقول لقيت كل رجل تريد كل الرجال وعاملته مياومه كما تقول مشاهرة، وربما عبروا عن الشدة باليوم يقال يوم أيوم كما يقال: ليلة ليلاء، قال أبو الأخزر الحمّاني من بني سعد:
|
نعم أخو الهيجاء في اليوم اليمي..
|
وهو مقلوب منه آخر الواو، وقدم الميم ثم قلب الواو ياءً حيث صارت طرفاً، كما قالوا أدل من جمع دلو، وقد ورد في الشعر العربي التعبير عن الوقائع بالأيام قال الأخطل:
|
وأيام لنا ولهم طوال |
يعض الهام فيهن الحديد |
وقال أحد بني يربوع: |
أخذتك قسراً يا حزيم بن طارق |
ولاقيت مني الموت يوم زرود |
وقال آخر من بني أسد: |
فنحن فوارس يوم الهبير |
ويوم الشعيبة نعم الطلب |
وقال قيس بن عاصم: |
ويوم جواثا والنباج وثيتل |
منعنا ربيعا أن تباح ثغورها |
وقال أحد بني مجاشع: |
ونحن منعنا يوم (عينين) منقرا |
ولم ننب يومي جدود عن الأسل |
الأيام هي الوقائع كما مر، وروي أن الأصل هو أيام وقائع العرب ثم حذفت كلمة وقائع اختصاراً بسبب كثرة تداولها وهو استعمال شائع نظير قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} والمقصود واسأل أهل القرية، ولما كانت الوقعة أظهر حدث في اليوم سمي اليوم كله بها كأن لم يكن شيء آخر سواها، كما نقول يوم النصر ويوم اللقاء، أو أن المقصود باليوم وقت الشدة وقيل: إن القتال غالباً ما يحدث في يوم واحد وبذا أخذ اليوم هذه الخصوصية وذهب بعضهم إلى أن اليوم رمز تاريخي يؤرخ به للزمن فيقال حدث يوم كذا، وزمن الوقعة الفلانية، ثم استغلت الوقعة للتاريخ وخصت الأيام دون ذكر الليالي لأن حروب العرب كانت نهاراً فإذا كانت ليلاً ذكروها وينظر في هذا مقدمة جاد المولى وأبي الفضل إبراهيم والبياتي.
|
ظلت إفادة الباحثين من الأيام وما تزال قائمة، وللمستشرق البريطاني كاستر تحليل عن يوم الصُّليب واعتمد الشيخ حمد الجاسر على وقائع العرب في معجمه عن شرق جزيرة العرب وأفاد منها في تحديد المواقع وفي نتائج الأيام الحربية وأثرها على هجرات القبائل، وممن عني بها الأستاذ الشايع والدكتور الغزي، وللشيخ أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري اهتمام كبير بالأيام، وقد وقفت معه ميدانياً على بعض مواقعها كالرقم وزرود وخوّ، وفي بحثي في الأيام بدا لي أهمية الربط بين وقائع معينة كرحرحان وجبلة وذي نجب في عالية نجد لأن كل يوم منها مترتب على الذي قبله، وكذلك نطاع والصفقة والكلاب الثاني للسبب ذاته وكانت الأيام مدار بحث كتبته بعنوان اليمامة قلب جزيرة العرب، ومن الأيام اليمامية تعشار والشقيقة والسلي وملهم وطحيل وذو خيم والأربعاء والمروت وملزق ومبايض وأيام أخرى.
|
عضو مجلس الشورى |
|