Al Jazirah NewsPaper Friday  11/05/2007 G Issue 12643
الثقافية
الجمعة 24 ربيع الثاني 1428   العدد  12643

شعراء من الجزيرة العربية...الشاعر الأمير عبد الله الفيصل

*عبد الله بن سالم الحميد

منذ أن تفتحت عيوننا على قراءة المنظومات الشعرية في المرحلة الابتدائية كانت قصائد الشاعر عبد الله الفيصل، ومنذ أن بدأنا نستمتع بروائع الإنشاد الشعري يردّد عبر محفوظ عشاق الكلمة الشاعرة أصغينا إلى شعر عبد الله الفيصل عن طموح الشباب، ومنذ أن كان الشعر الوجداني والغزلي يتسرب إلى مسامعنا همساً طرق أبوابنا ديوان (وحي الحرمان) للشاعر الأمير عبد الله الفيصل، في حين يعبر الذاكرة والوجدان صوت المعلم الأستاذ عبدا لعزيز الخريّف يهتف من أعماق الوجدان مذكراً كعادته بمصداقية الوفاء لكل من كان لهم حضور وتأثير في حياتنا وشجوننا واللحظات الواعية من عمرنا التي امتزجنا بها في تجليات الشعر والأدب، نبحث في آفاقهما عن المعاناة والمتعة والسلوى ونحن نلتصق بأطياف المعاناة، وهواجسها تتجلى أمامنا بفراق عزيز أو رحيل إنسان شاعر أو شاعر إنسان، أو فراق حبيب أرقنا فراقه وملأ حياتنا حزناً بعدما خفق كل وجد بحضوره وتألقه في الحياة.

تتفلت العبارات بين يدي وأنا أكتب عن الشاعر الأديب عبد الله الفيصل، وأنا أحاول صياغة حروف وداعه بعد أن ودعنا إنساناً كان له تأثير وحضور في أطهر موقعين من مقدساتنا على الأرض (مكة المكرمة والمدينة المنورة). إنه الأمير الإنسان عبد المجيد بن عبد العزيز الذي فارق الحياة صباح يوم السبت الموافق 18-4- 1428هـ، وأديت الصلاة عليه في مسجد الإمام تركي بن عبد الله في الرياض بعد ظهر الاثنين الموافق للعشرين من شهر ربيع الآخر عام 1428هـ، تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه جناته الفسيحة، وغفر له ولشاعرنا الفقيد الأمير عبد الله الفيصل الذي فجعنا بوفاته صباح يوم الثلاثاء الموافق 21-4-1428هـ.وقد عشتُ مع الشاعر الأمير عبد الله الفيصل ساعات وأياماً، وتوقفت عند مجموعة من قصائده، وكان له شخصياً الفضل في دعمي وتشجيعي بالاحتفاء بتجاربي الأولى عبر برنامجه التلفزيوني الذي كان يبثّ قبل ثلث قرن من الزمان، وعبر اللقاء الذي أجراه معه التلفزيون القطري قبل بضعة عشر عاماً؛ حيث أكد لي الصديق فهد الشبيبي أنه أثنى عليّ ضمن حديثه عن الشعراء الشباب آنذاك.

وقد تناولت شخصيته وشعره ضمن (شعراء من الجزيرة العربية) عبر برنامج أعددْتُه لإذاعة الرياض، ثم في كتاب صادر بهذا العنوان لا بدَّ لي أن أنشره وفاءً لهذا الشاعر الفذ الذي ارتبط اسمه بوجداننا وبذاكرة كل الأدباء بالمملكة عام 1404هـ حين تلقى (جائزة الدولة التقديرية) وتوقفت بعده، ولكن شعره ونبضه لم يتوقف؛ مما يحرضنا على استعادة الذكرى والمطالبة بعودة تلك الجائزة ليحظى بها الشعراء الأناشيد الذين ما برحوا يملؤون سماءنا وآفاقنا نشيداً ووفاء يعبر عن الحضور والتمازج والانتماء للإنسانية والدين والوطن.

التعود على ارتياد آفاق الشعر ومصاحبة الشعراء عبر معاناتهم الشعرية من أجمل المتع التي تنبه الأفكار وتمازج القناعات وتشعل زهور الوجدان وشموعه، ولو لم يكن للشعر دور ومعنى ما خلد في ذاكرة الزمان وأنسجة الناس، فهل يشعر كل منا بجمال الشعر وفاعليته؟ نرجو أن يكون ذلك أدنى أبعاد الشعر لدينا، وأولى قناعتنا بمصداقية الشعر وحضوره النابض.

في هذه الجولة الشعرية نلتقي مع شاعر غرّد على دوحاته، وصدحت معه البلابل، وعبرت أصداؤه الآفاق، وتغنت به الهواجس التي أرّقها الحنين، وناغمتها الشجون.

شاعرنا إنسان رسم صفة الحرمان عنواناً لمعاناته، فارتسمت كثير من التساؤلات عن سبب هذا الحرمان ومصداقيته، وكانت الإجابة على لسان الشاعر تقول:

(الحرمان مرادف للشقاء أو بداية له أو هو دليل عليه، والشقاء عكس السعادة، والسعادة ما هي؟ وفي أي شيء تكون؟ هل هي في المنصب والجاه؟ أم هي في الإمارة والوزارة؟ أم هي في الشباب والجمال؟ أم هي في الثورة والمال؟ إن كانت كذلك فأنا سعيد كل السعادة، ولكنك تعلم - يا عزيزي - أن السعادة ليست في كل هذه الصفات والمميزات!! إن مقرّها في النفس، ومنبعها الإحساس، فأنت سعيد إذا أحسست بالسعادة ولو فقدت كل أسبابها الظاهرة ومقوماتها المعبرة، وأنت محروم من السعادة إذا فقدت الإحساس بها ولو اجتمعت لك كل مقوماتها واعتباراتها، لماذا؟ لأن إحساسك متأثر بعوامل أخرى من الألم والأسى تشغله وتستأثر به عن الشعور بالسعادة، لهذا وحده أنا محروم).

من صفة الحرمان وعنوانه، ومن خلال هذه الكلمات للشاعر الأمير عبد الله الفيصل الذي سنرتحل في آفاقه الشعرية يمتزج الشعر بأوراق الخريف، ويعبر عن ألوان من الحرمان في شعر الشاعر عبد الله الفيصل كما يصوره في قصيدته بعنوان (طلائع خريف)، فيقول معبراً عن إيحاءات الشعر ودوافعه:

الشعر يوحيه الشبابْ

وخياله الزاهي العجابْ

من لي به وقد افتقدتُ

لذائذي - عهد الشبابْ

الشعر يوحيه الربيعْ

وجماله الترف البديعْ

من لي به.. ويد الخريف

تذوي أزاهير الربيعْ

الشعر هزات الفؤادْ

للوصل.. أو خوف البعادْ

ودعته لما رأيت فؤاده لبس الجمادْ

الشعر يبعثه الخيالْ

إن عز في الدنيا منالْ

من لي به وقد افتقدت دنى الحقيقة والخيالْ

***

ما سر هذا الحرمان وخلفياته؟ وكيف ومن أين تسرب إلى فؤاد شاعرنا العزيز؟

* الحديث عن حياة الشاعر عبد الله الفيصل طويل طويل، ولكننا نكتفي هنا بملامح يسيرة عن حياته وشخصيته.

* في مدينة الرياض ولد الشاعر عبد الله الفيصل عام 1341هـ الموافق عام 1922م، ونشأ في كنف جده الملك عبد العزيز رحمه الله. يتحدث الشاعر الأمير عبد الله الفيصل عن حياته في البداية في مقدمة ديوانه الأول (وحي الحرمان) فيقول: (لم تقم بتربيتي مربية إنجليزية أو فرنسية.. بل تربيت في كنف جدي العظيم - الملك الراحل عبد العزيز - أمداً لم يزدْ على خمس سنوات تركت في نفسي على قصرها أبلغ الآثار، ثم تولَّت تربيتي والدتي التي كنتُ وحيدها في هذه الحياة، فكرَّست كل جهدها ووقفت حياتها في سبيل تنشئتي نشأة صالحة، وحافظت عليّ في صدق وإيمان من الوقوع في مهاوي الزلل، وعلمتني بحق أن أعرف مَن أنا غير مذكية فيَّ الغرور، ولكن لتعدّني لما يتطلبه وضعي في المستقبل، ولتفهمني أن عليّ نصيباً أوفى من أي نصيب. وعلى ربى نجد قضيت السنوات الأولى من حياتي كأيّ واحد من أطفال ذلك الزمن، وهنالك تلقيت مع أقراني من نابتة الرياض مبادئ القراءة وحفظت أكثر أجزاء القرآن، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الحجاز؛ حيث رأيت والدي لأول مرة وعشت في كنفه).

وقد انتظم الأمير عبد الله الفيصل في ميدان التعليم النظامي حتى حصل على الشهادة الابتدائية، وهي شهادة يعتز بها، ولم يقف طموحه في تلقي المعرفة والثقافة، وإنما كثف اطلاعه وقراءته في السياسة والتاريخ والأدب، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدرسة الحياة الكبرى كما يعبر عن ذلك بقوله: (وأعتقد أن لهواية المطالعة كبير فضل في تثقيفي وتعويضي عما قد فات، وانتقلت بعد هذه الفترة من حياتي إلى مدرسة الحياة الكبرى، وكان أستاذي من هذه المدرسة الحياتية والدي، والذي كان أستاذاً عظيماً بكل ما في العظمة من معانٍ).

هذه صفحة من حياة شاعرنا الأمير عبد الله الفيصل؛ حياته في البداية، وقد عيَّنه الملك عبد العزيز - رحمه الله - وكيلاً لنائبه الملك فيصل في الحجاز، وفي عام 1370هـ عين وزيراً للداخلية ووزيراً للصحة معاً، ثم تفرغ لوزارة الداخلية آنذاك.. ثم ترك العمل الرسمي ليتفرغ لعشقه الثقافي إلى جانب أعماله التجارية الحرة.

بعد إيراد هذه الملامح في سطور يسيرة نقرأ هذه الأبيات من قصيدة بعنوان (غربة الروح) يقول فيها الأمير عبد الله الفيصل معبراً عن لون من ألوان الغربة في حياته:

غربتي غربة المشاعر والروح

وإن عشت بين أهلي وصحبي

أبداً أنشد الهناء فألقى

حيثما رحت شقوة الحس جنبي

أزرع الود والحنان وأسقي

واحة الحب من روافد قلبي

فأرى الشك والجحود وألقى

ناتئات الأشواق تملأ دربي

شاخ صبري على الجراح وسالت

أدمع مناحة الصبر تُنبي

فحبست الأنين عن مسمع الناس

لئلاَّ يطول عذلي وعتبي

غير أني أحس بالمر يزداد

ويختال مارد اليأس قربي

***

يقول مقدم ديوان (وحي الحرمان) الأستاذ صلاح لبكي: (حسبك من محروم أنه إنسان كأي إنسان يتألم ويشقى، يحب ويتلهف، ويشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم وأوجاعهم، وأنه يحاول في منتهى الإخلاص أن يرفع للأدب راية). ومن ديوان (وحي الحرمان) نصغي إلى صوت النشيد في مقطع من قصيدة بعنوان (إلى شباب بلادي) للأمير الشاعر عبد الله الفيصل يقول فيها:

مرحى فقد وضح الصواب

وهفا إلى المجد الشباب

عجلان ينتهب الخطى

هيمان يستدني السحاب

في روحه أمل يضيء

وفي شبيبته غِلاب

قد فارق الجهل العقيم

وهشّ للعلم اللباب

ورنا إلى مستقبل

يرقى له متن الصعاب

قد راح يستهدي العلا

ويصارع الموج العباب

***

في الأرض أو في البحر أو في الجو أو فوق السحاب

ذاكم لعمري عدة الوطن الكريم المستطاب

ما المجد يُطلب بالمنى.. كلا ولا السمر القضاب

المجد يُبنى بالعلوم تهزّ عالمنا العجاب

والعلم راية كل شعب ناهض سامي الرغاب

وعليه فلنبنِ الحياة.. ولا نساوم في الثواب

ولننطلق في عزمنا.. مثل انطلاقات الشهاب

كيما نُرى فوق السُّها.. كيما نمجّد في المآب

***

من يقرأ شعر الأمير عبد الله الفيصل يدرك أنه عاشق للشعر، وقارئ جيد استوعب كثيراً من أسفار الشعر العربي القديم والحديث، وتأثر بالشعر الإبداعي لامرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والشريف الرضي وابن زيدون وأحمد شوقي، وعاصر عدداً من شعراء هذه البلاد كالعواد ومحمد حسن فقي وحسين عرب وطاهر زمخشري وحسن القرشي وغيرهم. وفي ديوانه الأول (وحي الحرمان) تشتعل العاطفة الوجدانية ممتزجة بأطياف الحزن والأحلام التي لم تتحقق، وقد لاقى عدد من قصائد هذا الديوان أصداء واسعة وغُنِّي عدد منها بأصوات عدد من المطربين من ذلك قصيدة (عواطف حائرة) التي عرفت بعنوان (ثورة الشك) وشدت بها أم كثلوم تقول أبيات منها:

أكاد أشكّ في نفسي.. لأنّي

أكاد أشك فيك.. وأنت منّي

يقول الناس إنك خنت عهدي

ولم تحفظ هواي.. ولم تصنّي

وأنت مناي أجمعها مشتْ بي

إليك خطى الشباب المطمئن

وقد كاد الشباب لغير عود

يولّي عن فتىً في غير أمن

وها أنا فاتني القدر الموالي

بأحلام الشباب.. ولم يفتني

كأن صباي قد ردّت رؤاه

على جفني المسهد أو كأنّي

يكذّب فيك كل الناس قلبي

وتسمع فيك كل الناس أذني

وكم طافت عليّ ظلال شك

أقضت مضجعي واستعبدتني

كأنّي طاف بي ركب الليالي

يحدّث عنك في الدنيا وعنّي

على أني أغالط فيك سمعي

وتبصر فيك غير الشكِّ عيني

وما أنا بالمصدّق فيك قولاً

ولكنّي شقيتُ بحسن ظنّي

***

في لقاء أجراه الأستاذ علوي طه الصافي نشر بمجلة (الفيصل) كان أحد الأسئلة المطروحة على الشاعر عبدالله الفيصل عن كتابته الشعرية للشعر الفصيح والنبطي؟

فأجاب بقوله: (إن الشعر حالة إنسانية وشعورية لها ظروفها الخاصة، والشاعر يجد نفسه منساقاً لاختيار القالب الشعري المناسب شعراً فصيحاً أو نبطياً، ولذلك فأنا لا أختار الشكل ولكني أترك الحالة الشعرية التي أمر بها تختار النمط الشعري المناسب الذي يستوعب إحساسي ويبرز قسماتها بصدق وشمول).

وقد تناولت الأستاذة منيرة العجلاني حياة الشاعر عبدالله الفيصل وشعره في كتاب بعنوان (عبدالله الفيصل -حياته وشعره) وهو بحث أعدته الباحثة باللغة الفرنسية وقدمته لكلية السربون بباريس وتُرجم إلى اللغة العربية وسلطت الباحثة الأضواء في بداية بحثها على الشعراء الذين قرأ لهم الشاعر عبدالله الفيصل وأحب شعرهم ومنهم من العصر الأموي عمر بن أبي ربيعة ومن العصر العباسي المتنبي ومن العصر الحديث إبراهيم ناجي وأحمد شوقي وعلي محمود طه وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل وشعراء لبنان.

وعندما نقرأ أو نسمع إلى أبيات من قصيدة (يا ناعس الطرف) تذكرنا بقصيدة ابن زيدون المشهورة التي يقول مطلعها:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

بنتم وبنّا.. فما ابتلت جوانحنا

شوقاً إليكم.. ولا جفّت مآقينا

***

ويقول الشاعر عبدالله الفيصل في قصيدته:

يا ناعس الطرف قد فازت أعادينا

واستبشروا بمناهم في تجافينا

وودعتنا أماني الوصل مسرعة

حتى غدونا بمنأى عن أمانينا

واستسلمت لظلام اليأس أنفسنا

إلا العلالات من ذكرى تلاقينا

وكان بالأمس شادي الوُرق يطربنا

لكنه إذ يغني اليوم يشجينا

***

ديوان (وحي الحرمان) يعبر عن مرحلة الشباب في حياة الشاعر عبدالله الفيصل، ويكتنز بالقصائد الغنائية التي نشهد مثلها في ديوان أحمد شوقي وأحمد رامي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه مع الفارق والتفاوت في الإبداع بين قصائد هؤلاء الشعراء، ومن تلك القصائد الغنائية (قصيدة سمراء) التي صدح بها المطرب عبدالحليم حافظ وتقول أبيات منها:

سمراء يا حلم الطفولهْ

يا منية النفس العليلهْ

كيف الوصول إلى هواك

وليس لي في الأمر حيله

إن كان في ذلي رضاك

فهذه روحي ذليله

ووسيلتي قلب به مثواك

إن عزّت وسيله

فلترحمي خفقانه

لك واسمعي فيه عويله

***

في ليلة نسج الغرام طيوفها بيدٍ نحيله

وأطال فيها سهد كل متيّم يشكو خليله

سمراء يا أمل الفؤاد.. وحلمه منذ الطفوله

***

للشاعر الأمير عبدالله الفيصل مشاركات فعلية في المؤتمرات الفكرية والأدبية في الدول العربية والأوروبية، وقد ترجمت نماذج من أشعاره إلى الإنجليزية والفرنسية والروسية.

وفي عام 1981م مُنح الأمير الشاعر عبدالله الفيصل (الدكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانية) بقرار من مجلس أمناء الأكاديمية للعلوم والثقافة المتفرعة عن (مؤتمر الشعراء العالميين) المنعقد في سان فرانسسكو بالولايات المتحدة الأمريكية.ويتناول الدكتور هاشم عبده هاشم جانباً من الرؤية الإنسانية لدى الشاعر عبدالله الفيصل فيقول: (سمو الأمير عبدالله الفيصل قال شعراً يتّسم بالرؤية الإنسانية المتّسمة بالشمولية التي أعطت القيمة للحس الإنساني وعبّرت عن إحساسه الشاعري وتفاعلت مع مجتمعه، بل ومع إنسان هذا الوطن تعبيراً صادقاً ولصيقاً بمشاعره وتأملاته وأزماته وأحلامه ومطامحه، هي التفاعلات التي يستمد منها الإنسان إكسير الحياة، ويفلح بعض الشعراء في تصويرها فقط، فيما يفلح آخرون في تجسيدها وبلورتها لتكون تجربة تتجاوز إطار المحلية إلى العالمية).

***

للشاعر عبدالله الفيصل قصائد نظمها في أعز الناس لديه جده الملك عبدالعزيز ووالده الملك فيصل رحمهما الله، وقصيدة (أبو الأبطال) - التي تذكرنا بأصداء قصيدة ابن عثيمين- تعد واحدة من تلك القصائد الأثيرة.

يقول فيها عبدالله الفيصل:

فجر تألق في الظلماء وانتشرا

عم الرياض وعم البيد والحضرا

توحدت فيه نجد بعد فرقتها

وفي الحجاز توالى الخير وانهمرا

سلوا الجزيرة عنه كيف وحّدها

وصان أرجاءها واستصحب الحذرا

عبدالعزيز أبو الأبطال قائدها

وفخرها إن دعا الداعي وإن فخرا

***

يا قائد العرب إنا لا نزال على

عهد الوفاء لمن قد شاد وادخرا

كانت بلادك أشلاء ممزقة

بين الزعامات ليست بينهن عرى

وقد رأت بك بعد الله عزّتها

والتمّ من شملها ما كان مندثرا

***

وفي قصيدة أخرى يخاطب الأمير عبدالله الفيصل والده الملك فيصل - رحمه الله - فيقول:

والدي يا واحة العز التي

جمعت كلّ معاني الغلبِ

أنت دنياي التي أزهو بها

مطمئن الحسّ إن انتسبِ

فإذا غنّيتُ يوماً للعلا

لحن مجدي الغابر المستعذب

كان لي عذري بأني فننٌ

لأصول الفخر جدي وأبي

جدي الباني على ضوء الهدى

وأبي المكمل صرح الحسبِ

***

بعد صدور الديوان الأول (وحي الحرمان) بعشرين سنة صدر الديوان الثاني للشاعر الأمير عبدالله الفيصل بعنوان (حديث قلب) وفيه ألغى المقدمة النثرية واكتفى بكلمات افتتاحية تقول: (بلا مقدمة ولا تعريف أضع بين يديك يا قارئي الحبيب حديث قلبي تاركاً الحكم لك). وقد جمع فيه تسعاً وستين قصيدة تتراوح إيقاعاتها بين الغنائية والقصصية والسردية، وتتفاوت مستوياتها الإبداعية فترقى في بعض القصائد، وتقترب في أخرى إلى المباشرة والنظم التقليدي العابر، وأحياناً يتذبذب مستوى النسيج الإبداعي في القصيدة الواحدة، كمثال على ذلك نورد هذه الأبيات الصاخبة من قصيدة بعنوان (الصمت الناطق) يقول فيها:

أحبك حتى كأن الهوى

تجمع وارتاح في أضلعي

وأصبحتُ بعد الفراغ امرءاً

صريع هوى جامح موجع

أحبك مهما يقل عاذلي

لأنك نجواي في مخدعي

تعيش ظلالك في ناظري

وصوتك ينساب في مسمعي

كأنك في أضلعي خفقة

تروح وتغدو وتحيا معي

تنطلق القصيدة بعد مرحلة الأداء الغنائي إلى رحابة الأفق السماعي الفسيح، وتتجاوز محدودية النشر إلى آفاق الانتشار ومنتجعات الشهرة المتنامية، وقد حظي عدد من قصائد الأمير عبدالله الفيصل بذلك، منها قصيدة (من أجل عينيك) التي شدت بها أم كلثوم، وهي من القصائد اللافتة المنشورة في ديوان (حديث قلب) تقول أبيات منها:

من أجل عينيك عشقتُ الهوى

بعد زمان كنت فيه الخلي

وأصبحت عيناي بعد الكرى

تقول للتسهيد لا ترحل

وكنت لا ألوي على فتنة

يحملها غضّ الصبا المقبل

حتى إذا طارحتني نظرة

حالمة من طرفك الأكحل

أحسستُ وقد النار في أضلعي

كأنها قامت على مرجل

وجمل الدنيا على ما بها

دفق سنى من حسنك الأمثل

يافاتنا لولاه ما هزني

وجد ولا طعم الهوى طاب لي

يا من على أقدامه بعثرت

غلائل من ظلّه المخملي

هذا فؤادي فامتلك أمره

واظلمه إن أحببت أو فاعدل

***

في الثامن من شهر شعبان من عام 1405هـ أقيم احتفال كبير بمدينة الرياض شرفه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز، كان ذلك الاحتفال بمناسبة منح (جائزة الدولة التقديرية لعام 1404هـ) لأعلام ثلاثة من أدباء المملكة هم: الأمير عبدالله الفيصل بن عبدالعزيز والأستاذ أحمد عبدالغفور عطار والأستاذ طاهر عبدالرحمن زمخشري، وفي العام نفسه حصل الأمير الفيصل على (وسام باريس) عن ما نشر من شعره وترجم الى اللغة الفرنسية، وإثر حصوله على هذه الجائزة، وفي لقاء بهذه المناسبة أجاب عن تساؤل طرحه الأستاذ علوي الصافي رئيس تحرير مجلة الفيصل عن توقعه الحصول على هذه الجائزة، أجاب شاعرنا الأمير عبدالله الفيصل بقوله: (لا أظن أن الشاعر الأصيل يفكر في ثمن صياغة مشاعره بصدق، أو ما تصادفه هذه الصياغة ذات يوم. إن ما يحرص عليه الشاعر هو أن يجد مشاعر الناس، وأن يصور أحاسيسهم بصدق، وبعد هذا فليحكم الناس على ما يصدر، قبولا أو رفضا انفعالا به وتفاعلا معه أو رفضا له لكنني لا أملك إلا أن أسجل اعتزازي بهذا التقدير.

***

في سكون المساء الجميل تستلم الأوردة لنسائم الراحة والاستجمام بعد عناء الكدح والشقاء، ويواصل الوجدان المثقل بالهموم معاناته بالسهر والأنين، وتتفاوت رؤى الناس في التعامل مع الظروف الزمانية، وفي الاستماع إلى هذه الأبيات من قصيدة (أنا والليل) للشاعر عبدالله الفيصل نشهد رؤية الشاعر وهو يتحدث عن نفسه وعن الليل، فيقول:

أنا والليل ساهران.. حيارى

بظلام يطوف حيث نهيم

كلنا شارد الخطى غير أني

مثخن بالجراح وهو يسلم

هو يرعى النجوم أني تبدّت

وأنا أطبقت عليّ الهموم

لا لساني ولا القلب زاهٍ

والسكون الطويل حولي مقيم

***

أيها الليل يا أليف سهادي

يا نديمي إذا جفاني النديم

يا أنيسي في وحدتي وعذابي

يا صديقاً على الوفاء يدوم

أنت للعاشقين خير صديق

صان سرّ الغرام وهو عليم

أنت لليائسين دنيا أمان

رحبت فيك ساحة وتخوم

فالصفاء الذي حملت أنيس

والسكون الذي بعثت رحيم

وإلى جانب الاهتمامات الأدبية لدى الشاعر عبدالله الفيصل نلحظ اهتمامه بالنواحي الرياضية ودعمه المتواصل لها، بالإضافة الى نشاطاته الأخرى التي ربما تأخذه من المعاناة الشعرية وما يثري عطاءه فيها، وحول هذه الإشكاليات بالذات يجيب الأمير عبدالله الفيصل عن التوقف عن العطاء الشعري فيقول:

(الشاعر لا يستطيع ان يتوقف عن العطاء الشعري لكنه كأي حي قد تمر به فترات - جفاف وتكلس - أو ما يمكن أن نسميه بضبابية الرؤية ومرحلة الاختزان فقط، ولعلي أبرأ من هذه الحالة في اللحظة المناسبة، فأنا لا أستطيع الحياة بدون شعر، ولا أتصور أن الشاعر يمكن أن يكون موجودا دون أن يعكس ما يمور في نفسه، وتجيش به نفسه).

والشاعر عبدالله الفيصل يكتب الشعر النبطي ويبدع فيه ويجيد إلقاءه، ولكنه يؤجل نشره في ديوان، ربما لأن انتشاره مغنى أبلغ تأثيراً واستيعاباً!

ومن تلك القصائد النبطية المغناة عطني وعد، وخذني معاك، ويا مرخص الغالي، وفي شعره الفصيح تقترب الرباعيات المتوزعة في ديوانية من الغنائية وتصلح للأداء، وقد غني منها ما تمتزج فيه الذكريات والشجون، وكان صدى للألحان والأغنيات الشجية لأم كلثوم وعبدالوهاب وغيرهما من المطربين القدامى والمعاصرين له، ولعلنا ندرك ذلك إذا استمعنا إلى بعض أغنياتهم وإلى هذه الأبيات من قصيدة (كنا وكان) التي يقول فيها الشاعر عبدالله الفيصل:

يا حبيبي أين تلك الأمسيات

يوم كنا من هوانا في سبات

يا حبيبي.. كيف ذاك الحب مات؟

عندما دبّت به روح الحياة

***

يا حبيبي ذكريات الأمس تهفو

أبدا أصحو عليهن وأغفو

كل ما ودعت طيفا لاح طيف

أترى قلبك بعد الهجر يصفو

يا حبيبي إن يكن طال الجفا

وذوى في زهرة العمر صبانا

فلنعش يا حب في ذكرى هوانا

ولنقل عن حبنا: كنّا وكان

***

وللشاعر الأمير عبدالله الفيصل آراء نقدية صريحة في تجارب الشعراء، ومن ذلك قوله: (ظهرت بعض الأشكال والأنماط والمدارس الشعرية والألوان المختلفة التي صادفت هوى أو رفضا من قبل المثقفين، لكن السمة البارزة هي أن التجربة الشعرية تعكس طبيعة كل مرحلة ولذلك فإنه لا يمكن القول إن شعر الشعراء الماضي كانوا أفضل من شعراء هذه العصر أو العكس؛ ذلك أن لكل مرحلة تفكيرها وظروفها ومعالجتها ومقاييسها الخاصة، لكنني لا أميل إلى القول: عن ما نشهده الآن أكثر نقحاً ومعاناة مما كان يصوغه الشعراء الأقدمون، وإن كانت هناك نماذج حية ونابضة وقوية لكنها لا تكاد تبرز بين الكثير من الغث الذي نرى، أما بالنسبة لتجربتنا الشعرية في هذه البلاد فإنني أستطيع القول إنها حافظت على الأصالة وزخرت بالتجارب الإنسانية الحية إن لم تكن ذات مضامين شاملة عميقة، أي أن شعراءنا قد اكتفوا بالتقليد والمحاكاة في كثير مما نقرأ لهم إلا من ومضات نادرة فيها إبداع أو رؤية حية ونابضة).

نعود إلى رحاب الشعر، ومن الشعر الغنائي بالذات هذه الأبيات من قصيدة (أيها النائي) يقول فيها الشاعر عبدالله الفيصل:

أيها النائي عن العين وما

عشقت عيناي إلاك جميلا

لا يطل نأيك عني.. فالدّنا

أظلمت حولي وأصبحتُ عليلا

أنت لو تمسع ما في خافقي

من نداءات لألغيت الرحيلا

وأنا لو كنت أدري ما النّوى

كنت أشفقت على نفسي الذبولا

***

في رسالاتك يا أحلى المنى

نغمات منزعات بالحبور

كل ما حاولت أن أسألها

عنك أخفاك الحيا بين السطور

لكأني بك طفل في الهوى

حائر بين وثب وقصور

فاحتمى خلف حروف عبقت

رغم ما يخفيه بالشوق المثير

***

سل نجوم الليل عن شاعرها

إن جفا عينيك في الليل الرقاد

وتلفت حيثما شئت تجد

وهج أنفاسي مشبوب السّهاد

واستمعني في حناياك صدى

لغرام زاده البعد اتقاد

وتبسط في مناجاتي.. فما

أعذب النجوى إذا رقّ الوداد

***

ما نصغي إليه من أبيات شعرية في هذا اللقاء العابر يشتعل فيه الوجد ويشتمل أسلوب الخطابة تجاه الحبيب، والشاعر عبدالله الفيصل لا يكتب غير هذا النمط من الشعر التقليدي ذي الشطرين، ولم نقرأ له في تجارب شعر التفعلية أو الشعر الحر، وكل ما نشر له من قصائد في ديوانية أو في الصحف هو من الشعر التقليدي الوصفي الممتزج بالذاكرة التراثية الغزيرة الأثيرة لديه. في قصيدة بعنوان (منطق الحق) ينتقد عبدالله الفيصل العصر الذي لا قيمة فيه للحق والسماحة ولا معنى فيه للقيم والمثل النبلى، ويرسم علامات استفهام عنها فيقول:

أي عصر للنور لا نور فيه

غير ما بان من قراع السلاح

أي عصر هذا الذي يتبارى

فيه حرّ الظُّبى بطعن الرماح

تشرق الشمس فيه فوق المآسي

وتطل النجوم فوق الجراح

لم يعد فيه موئل أو مكان

لأليف الهنا وخدن السماح

مد شطآنه للجهالة والشرّ

وسحق الأجساد والأرواح

الضمير اليقظان فيه جريح

والنفوس الكبار غير صواح

ليت هذا الوجود يمسي ويغدو

واحة للصفاء والأفراح

ما تحل لأخلاق فيه مباح

وسجال الآثام غير مباح

لا تطيب الحياة من غير أمنٍ

مشرق كالسنا بثغر الصباح

***

إن الرحلة في تجليات الشعر وأشجان الشعراء تطالبنا بالمزيد من الشعر الإنساني الرائع، وشعر الأمير عبدالله الفيصل فيه وجد شفيف ونبض عاطفي..

وقصائد الشاعر تتجاوز ما يحتويه ديواناه اللذان صدرا مما يقتضي قراءة أشمل من هذه القراءة العابرة للتمكن من الوقوف على أبعاد وجوانب أخرى في حياة الشعر لدى عبدالله الفيصل، وأبعاد شخصيته الحاضرة المعاصرة.

المراجع:

1- وحي الحرمان الصادر عن مؤسسة الملك فيصل الخيرية عام 1400هـ.

2- مجلة الفيصل، العدد 100 الصادر في شوال عام 1405هـ.

3- عبدالله الفيصل، حياته شعره، تأليف منيرة العجلاني، دار الاصفهاني بجدة.

4- حديث قلب، الصادر عن دار الأصفهاني للطباعة بجدة عام 1393هـ.

5- مجلة الفيصل، العدد 100 الصادر في شوال عام 1405هـ.

6- السمكة والبحر، تأليف علوي طه الصافي، دار الصافي للثقافة والنشر 1408هـ.

7- الشعر في الجزيرة العربية، د. عبدالله الحامد، الطبعة الأولى عام 1406هـ الناشر دار الكتاب السعودي بجدة.

8- الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية للدكتور بكري شيخ أمين، نشر دار العلم للملايين ببيروت، الطبعة الثانية عام 1984م.

9- الموجز في تاريخ الأدب السعودي، الدكتور عمر الطيب السياسي، الطبعة الأولى 1406هـ، تهامة، الكتاب الجامعي.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد