Al Jazirah NewsPaper Tuesday  20/03/2007 G Issue 12591
مقـالات
الثلاثاء 1 ربيع الأول 1428   العدد  12591
أمجاد.. يا عرب.. أمجاد
أنور عبد المجيد الجبرتي

* سيقولون، سمعنا هذا من قبل. وسيتذكر البعض من الشيوخ والكهول، الزمان، والمكان، والإذاعة، و(الزعيم).

* سيقولون، باطل الأباطيل، وأساطير الأولين، وهَذر من بقايا المتخلفين المخرفين، ونفاياتٌ من أزمنة السذاجة، والبداوة، والفكر القديم.

* لكنهم، كما فعلوا، وكما يفعلون، يُقيدون (العروبة) إلى أزمنتهم وزعمائهم وتجاربهم ومغامراتهم، ويأسِرونها في (أنظمتهم) وأيديولوجياتهم ومذاهبهم، وتصوراتهم، ثم.. عندما تتعثر في أغلالهم التي أحكموها، وفي شباكهم التي نصبوها، يلعنونها ويرجمونها، ويخجلون منها، ويهجونها، ويقيمون لها - في أحسن الأحوال - سُرادقات للعزاء، ويتبادلون فيما بينهم برقيات المواساة وينشرون قصائد الرثاء.

* يأتون إلى خيمتي في أقصى المكان فيجدونني أهمهم بالأهازيج القديمة، وأتأمل الصور المتآكلة الباهتة، وأبعثر سحَّارتي المتهالكة، ويقولون في شفقة وازدراء:

تالله لا تزال في غيّك القديم، وستظل تذكرها حتى تذوى أو تكون من الهالكين.

* ولكنني، أعلم أنهم ألقوا بها في غيابات الجُبِّ وجاءوا على قميصها بدمٍ كذِب، وأظهروا الحزن عليها والشفقة عليَّ وأنهم كاذبون، منافقون، عاقُّون، يتبرَّؤون منها، ومنكرون صلتهم بها، ولا يستحسنون ذكرها في المحافل المخملية المتحضرة، ولا يعلنون انتساباً إليها في منتديات الفكر والسياسة ويخافون أن يضبطهم أحدٌ، متلبِّسين مع أشيائها، وشعاراتها ورائحتها.

* أساؤوا إليها بأفعالهم، ودنَّسوها بخطاياهم، ثم ألبسوها التهمة، وزيفوا لها محاضر التحقيق، وشهدوا عليها زوراً وبهتاناً، وكتبوا فيها بيانات الشجب والاستنكار، وأصدروا صكوك البراءة، وأنكروا عهود الولاء وأحرقوا شهادة الميلاد، ومزَّقوا شجرة النسب.

* ليست (العروبة)، زعيماً أو حزباً، أو مذهباً، أو إيديولوجيةً أو تنظيماً، أو برنامجاً قُطرياً، أو أجندةً سياسيةً.

* والذين خلعوا عليها تلك الثياب ورفعوا على خبائها تلك (اليافطات) وفرضوا عليها (أجنداتهم) الخاصة هم أنفسهم من يحاول التهرب من إرثها ونسبها، تحت (يافطات) جديدة، و(أجندات) طارئة. وهم الذين يزايدون عليها، ويستهزئون بأحبائها وعاشقيها، ويُسفِّهون بأهازيجها وشعاراتها.

* قفز أبناؤها المراهقون يوماً على دباباتهم ومدرَّعاتهم وأذاعوا بيانهم الأول. واستورد بعضهم لها ثياب القومية الكلاسيكية الأوروبية، بكل (شوفينياتها) وقساوة قلبها، وخواء روحها وتحجر مشاعرها. أقاموا لها حزباً ونصبوا لها زعيماً، وكتبوا لها برنامجاً، ولفقوا لها أيديولوجية مضطربة متناقضة، وجنَّدوا لها بوليساً سرياً معربداً، وشيَّدوا سجوناً، ونظموا دعايةً متقنةً، وحشدوا مثقفين مرتزقة.

* وزحفت الدبابات تحت هذه الأعلام المصطنعة، وزعقت الإذاعات بالشعارات الهجينة، وأرادت كل (عُروبة) مزيفة أن تبتلع كل (عروبة) أخرى، وتسترت تحت تلك العباءات المزيفة، أطماع (الزعيم) الشخصية وأطماع الغزو والغنائم عند القبائل والعشائر، وتبلورت منافسات العواصم والحواضر والبوادي.

* وفي الداخل، وقف الزعيم، بانتصاب (هِتلري)، وحشوة (ستالينية) وطموح (باسماركي)، وقال: إن اغتيال عربي واحد، أمرٌ يثير الحزن والأسى، ولكن قتل مليون عربي لا يعدو أن يكون مسألة إحصاء.

* باسم (العروبة) الوهمية، أعدموا الحرية، وأذلوا الكرامة، وأهدروا الحقوق ولقمة العيش، ودمروا الاقتصاد وفقدوا الأرض والحدود، وخسروا الحروب، واستسلموا للعدو.

* وعندما خسروا (مشروعهم) ورحلوا جاء من بعدهم خلف من المنظرين، والمتثاقفين، ليجعلوا (العروبة) تدفع الثمن. ساهم هؤلاء، في صناعة (المشروع) العقيم، وفقدوا فضيلة المراجعة والاعتذار، فوصموا (العروبة) بالتهمة، وحمَّلوها أثقال الهزيمة وأعباءها، وبدوا كأنهم يضيقون ذرعاً بها، لأنها تذكرهم بالذنب العظيم.

* القوميون، (الأُوروبّاويّون)، الكلاسيكيون، يقولون إن (العروبة) العاطفية العفوية، الطازجة، كانت نزعة بدوية تراثية، خائبة ورجعية.

* والاشتراكيون الأيديولوجيون، بأنواعهم المختلفة، يزعمون أن (العروبة) نزعة بورجوازية، شوفينية وطنية متخلفة.

* والليبراليون، المستعجلون، المتلهفون يؤمنون بأن (العروبة) إرث محلي، انغلاقي، هُلامي، غير عقلاني يحارب اقتصاديات السوق ويصادم العولمة، ويُجدِّف ضد الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان، وعلى كل حال، وعلى الأقل، فإن رائحتها قديمة، وغير متحضرة، ولا يجدر بنا أن نصطحبها إلى الأماكن العامة.

* كلٌّ يدَّعي بُعْداً، ويصنع مسافة عن (العروبة)، وطبعاً، بكل نيّة حسنة ونفس طيبة وبراءة معلنة، وبكل الصياغات والتنظيرات الأنيقة والفصيحة وبكل بلاغة ناعمة ومتقنة.

* لقد جاء يوم على (العروبة) و(العرب)، يتلقيان فيه الشجب والتعريض و(الرَّدح) في برامج الحوار، ومقالات الكتاب. يقولون لك بالفم المفتوح واللسان الفصيح، بأنك تنتمي إلى زمن مهزوم، وفكر مأزوم طالما أنك تتغنى بالعروبة وتنشد لها، وتحلم بأيامها المجيدة الغابرة، وتأمل في أفقها المجيد القادم. يقولون هذا بكاءٌ على الأطلال واحتفاءٌ بالأموات وزيارةٌ للقبور وتمسحٌ بالأضرحة، وأن على (الإنسان) الحديث أن يتحدث لغة أخرى، ويرقص على نغمة مختلفة، ويسبح بأمجاد ومفاهيم وأفكار مختلفة ومتطورة.

* يصنعون حولك سوراً، ويقيمون في وجهك جداراً وينثرون في عينيك غباراً، ويصخُّون أُذنك بالجلبة والضجيج، ويخرجون لك ألسنتهم، سخريةً واستهزاءً.

* يريدون أن يُخرجوك، ويثيرون الشك، واليأس، ويقطعون الرجاء، ولكنك تتحوصل على إرادتك، وتهز جسمك، إصراراً على نشيدك القديم، وتعلم رغم الهزائم القاتلة والحسابات والاحتمالات أن (العروبة) شمس لا بد أن تشرق، ونسمة لا بُدَّ أن تهب، وعشبة لا بُدَّ أن تزهر، وأن لها موعداً قادماً يوماً، مع الأرض والسماء والجهات الأربع، وحتى مع أبنائها وأحفادها، الجاحدين، الجاهلين.

* آهٍ.. ما أقسى الجدارْ

عندما ينهض في وجه الشروق

ربما ننفق كلَّ العمر.. كي نثقب ثغرة

ليمرَّ النور للأجيال مرَّة!

... ...

ربما لو لمْ يكن هذا الجدارْ

ما عرفنا قيمة الضوء الطليق. (أمل دنقل)

* بل، أمجاد، يا عَرَب، أمجاد. البارحة، واليوم، وغداً.

* نعشق المجد، ونجدد العهد، رغم (الإذاعة) و(الزعيم)، وبذاءة السياسة، وخواء (الأجندات)، وعفن (المستوردات) وجحود الأبناء، وشجب، المنكرين، وغطرسة (المتحضرين)، وخذلان النَّصير، ووحشة الطريق.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد