(المداراة خُلُقٌ في الإنسان، مكتسب؛ ليُصبح له بعد ذلك سلوكاً، يقوِّم من خلاله معظم علاقاته الاجتماعية مع الآخرين، وكلَّما كان الإنسان ذا علاقة واسعة مع غيره، وتعدَّدت مسؤولياته، احتاج إلى نوع من المُداراة التي من أبرز معالمها: اللِّين؛ فمهمة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - في نشر الدعوة إلى توحيد الله وهداية الأمم، يغلب عليها طابع المداراة فيما لا يُخالف منهج الدعوة وأهداف الدَّاعية؛ فكانوا يتعاملون مع أذى المناوئين لدعوتهم بالصبر والأناة، والحكمة والموعظة الحسنة، موجَّهين من الله تعالى بذلك).
|
هذه سطور من خاتمة كتابٍ يقع في ما يقارب ثمانين ومائة من صفحات القطع المتوسِّط لمؤلفه الدكتور محمد بن سعد بن عبدالرحمن، وهو كتاب لطيف تناول فيه مؤلفه موضوع المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس، وفق دراسة منهجية شرعية اجتماعية، وفي السطور السابقة من خاتمة الكتاب إيضاح لمعنى المداراة؛ حتى لا يظن ظانٌّ أنها تعني النفاق أو الخداع؛ فهي تعني الرِّفق واللِّين فيما لا يصطدم مع المنهج، أو يؤثر تأثيراً سلبياً في الثبات على المبدأ، والمعنى العام للمداراة معنى معروف قديماً وحديثاً وعند كل الأمم، وجميع بحوث ودراسات ودورات (فنّ التعامل) مع الآخرين تحاول أن تجعل من (المداراة) مهارةً يتقنها الإنسان في حياته وعلاقاته مع القريبين منه والبعيدين عنه.
|
لقد تناول المؤلف موضوع المداراة من جوانب متعددة؛ فعرّف بمعناها اللغوي والاصطلاحي، وأورد ما ورد في القرآن الكريم عن المداراة ومدلولاتها، مؤكداً أن للقرآن الكريم أساليب مختلفة باختلاف المناسبات والوقائع؛ فهناك ما يتطلَّب الجدل بالتي هي أحسن لتأليف القلوب، وما يصاحب ذلك من آياتٍ باهرات تُبهت الفاسق، وتكسر طَوْق المعاند والمكابر، وتزيد المؤمن إيماناً، كما ورد في قصة حوار إبراهيم - عليه السلام - مع النمرود في سورة البقرة آية (258)، وكما ورد في حوار إبراهيم في أكثر من موقف مع أبيه، ومداراته المتكرِّرة له؛ حرصاً على إسلامه وإنقاذه من النار، وهنالك ما يتطلَّب كظم الغيظ وسعة الصدر كما حصل من يوسف - عليه السلام -، حينما قال إخوته: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ}؛ حيث أخبرنا الله تعالى بأن يوسف لم ينفعل إزاءَ هذه التهمة؛ فقال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}؛ فهذا الإسرار في هذا الموقف من المداراة المشروعة؛ لأنها تحقق أغراضاً سامية.
|
وأورد المؤلف في كتابه بعض ما ورد في السنَّة النبوية وآثار الصحابة والتابعين عن المداراة وكيف فهموها، مبيناً بعد ذلك في مبحثٍ مستقل الأثر الإيجابي الكبير الذي تُحدثه المداراة بمفهومها الشرعي في المجتمعات البشرية.
|
وأقول: ما من موضوع يحقِّق سعادة للبشرية، ولا مَهَارةٍ تنفع الناس في بناء حياتهم وإقامة علاقاتهم ورعاية مصالحهم، إلا ولها في ديننا الحنيف أصل ثابت؛ لأنه الدين الكامل الذي أتمَّ الله به النعمة على عباده، ورسم به المنهج المتكامل للحياة البشرية الكريمة.
|
|
دينُنا أثْبَتُ مِنْ قُنَّةِ رَضْوى |
كل دينٍ غيره في الأرض زائلْ |
www.awfaz.com |
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5886» ثم أرسلها إلى الكود 82244 |
|