Al Jazirah NewsPaper Tuesday  05/01/2007 G Issue 12517
مقـالات
الثلاثاء 20 ذو الحجة 1427   العدد  12517

على سلم الطائرة (2 - 2)
د . محمد العيد الخطراوي

ويلتفت إلى قلبه ليذكر بشوقه وحنينه وهو في البرازيل إلى سوريا التي شهدت ردحاً من طفولته، وحقبة من شبابه، واستعرض من تلك المشاهد: الكوخ الأخضر، والأهل والأصدقاء، والعهد النضير، وإلى أريج الشام، وشذا الكرمل، وإلى ظلال النخيل، وجرعة باردة من الماء العذب، وإلى السفوح والسهول:

أتذكر يا قلب كم ذا صبونا

إلى كوخنا الأخضر الأخضل؟

إلى الأهل والدار والأصدقاء

إلى عهدنا الأنضر الأجمل

إلى نفحة من أريج الشآم

إلى موجة من شذا الكرمل

إلى غفوة تحت ظل النخيل

إلى جرعة الماء من (كَوْشَل)

إلى السهل تمرح فيه النعاج

إلى الحقل يُمرع بالسنبل

الحظ معي (إلى) تتكرر تسع مرات، وكان بالإمكان أن يأتي العطف من دونها، فإبرازها وتكرارها بهذه الكمية يؤكد على أننا إزاء مجموعة من المشاهد، وليس مشهداً واحداً، وأن في كل مشهد غَنْوة من جمال تدعو إلى التعلق به والوقوف أمامه، والمجاهدة الوجدانية والحسية من أجل الوصول إليه، كما أن الرقم تسعة يذكرنا بشهور الحمل، فهي جماليا مكتملة، يفضي بعضها إلى بعض زخارف لا تنتهي، ومناظر لا تغيب.

ثم هو يلوم قلبه حين يبكي الآن مفارقة البرازيل، بعد أن كان يتشوق إلى سوريا، وكأنه يعيش بذلك بين نارين، هو يحب وطنه البرازيل، وهو يحب وطنه سوريا، وهو أمر محير يقف الشاعر أمامه بالفعل محتاراً:

فما لك يا قلب تذري الدموع

وتجثو حزينا على الهيكل؟

ومالك تنسى ليالي الهوى

وتهفو إلى قيدها الأثقل؟

ومالك في غمرات الحنين

تود لو انك لم تقفل؟

تحقق حلمك بعد المطال

فهلا ضحكت لمستقبل؟

عجبت لأمرك تبكي غريبا

وتبكي إذا عدت للمنزل!!

يبدو أن قلبه محتار في أمره، لا يعرف لمن يمنح خالص حبه، ولو حكم الشاعر عقله بدلا من قلبه، لاهتدى إلى أنه يمكن أن يجمع في صدره حب وطنيه معاً، ولا ضير على قلبه أن يتغنى بحبيه، ولا شَنْوة على الشاعر أن يكون في وقت مناسب برازيلياً، وفي وقت آخر سوريا، ويتفاعل مع وطنيه كما يتفاعل مع أبويه.

وفي المقطع لا نزال نلتقي بالشاعر يتجرع مراراة التردد والحيرة، ولو أنصف نفسه لأراح واستراح:

عذلتك يا قلب، لكن رياء

ورب شج في ثياب خلي

هو يعذله ظاهرا على تردده، في الوقت الذي هو فيه أشد تردداً وحيرة، لهذا يعود فيقول:

كلانا يصارع نار الجوى

ويشرَق في دمعه المرسل

كلانا تناهبه لهفة

ويطعنه الوجد في مقتل

أحن لأهليَ في مهجري

وأصبو إلى موطني الأول

أنا حائر بين هذا وذا

فكيف الخروج من المشكل؟

ويختم القصيدة بالبيتين التاليين بحرقة المودع، ووجد الحبيب المفارق، راجيا من أحبائه أن يشملوه بدفء عواطفهم، وغامر حبهم في سفره، فإن لم يفعلوا ألغى رحلته وأبطل سفره، وأتم أيامه في مهجره.

غدا يا رفاق الطريق الوداع

فرفقا بحال الأخ المثقل

إذا لم تحنوا على راحل

طويت جناحي، ولم أرحل!

إن الطائرة تقرب المسافات وتطوي الأبعاد، وتيسر لقاء الأحباب، وتصل بين القلوب، فعلى سلمها تثور التباريح، وتهب المشاعر، وتضطرم النفوس بالأحاسيس الحلوة والمرة، والشاعر الشاعر هو الذي يستطيع أن يسجل كل أولئك بريشته الشعرية، فيبكي مع الباكين ويغني مع المغنين، وهكذا فعل زكي قنصل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد