قال لي صاحبي: أسمع الناس كثيراً يردِّدون (الحديث ذو الشجون) ولا أعرف المعنى الصحيح لكلمة شجون، وسألت معلِّماً استخدم هذا المثل عنها فقال: معنى شجون هنا أنواع وأشكال، وسألت آخر فقال: معناها أحزان وآلام، وسألت آخر فقال: الشجون ليست صحيحة لغويا ولكن الصحيح أشجان، والشجون خطأ شائع، وهاأنذا أسمعك اليوم تقول المثل نفسه في موقف فهمت معناه بصورة أخرى غير الذي فهمت من قبل، فكأني بك أردت بالمثل الاستشهاد على تداخل الحديث في بعضه وتشابكه، فليتك تؤكد لي المعنى الصحيح من بين هذه المعاني.
قلت له: أوَّلاً أحمد لك هذا الاهتمام بالحصول على معلومة صحيحة، وهذا الحرص على السؤال عنها بهذه الصورة الجيدة، ولكني أعتب عليك من جانب آخر - وأنت إنسان متعلِّم - في حرصك الدائب على السؤال عن هذا المثل، وعدم حرصك على الرجوع إلى قاموس من قواميس اللغة لتريح نفسك، وتصل إلى المعلومة الصحيحة مباشرة، وتصبح أنت مصدراً للمعلومة، قادراً على تصحيح معناها عند مَن لا يعرفه.
إنَّ رجوعك إلى قاموس مختصر كالمنجد، أو الصِّحاح، أو قاموس موسَّع شامل تتحقق به لك متعة التفاصيل كلسان العرب يجعلك على صلة بالكتاب قراءة وفهماً، ويريحك من أن تبقى تائهاً بين الإجابات المتضاربة بما فيها من خطأ وصواب.
قال لي: صدقت، وهذه ليست مشكلتي وحدي، إنها مشكلة مجتمعنا الذي لا يحرص على تنمية حبِّ القراءة في نفوس أبنائه منذ الصغر، ولو أنَّ أولياء الأمور اهتموا بتغذية أذهان أولادهم كما يهتمون بتغذية بطونهم لكان لنا شأن آخر.
قلت له: وانطلاقاً من هذا القول فإنني لن أجيبك عن سؤالك الآن، وإنما سأترك لك فرصة كسر الحاجز النفسي، والرجوع بنفسك إلى أقرب قاموس لغوي في مكتبتك المنزلية، قال لي ضاحكاً: سامحك الله وهل تضمن أنني قد بلغت هذه المنزلة من امتلاك قاموس لغوي، إنَّ أبرز كتابٍ أراه كلَّ يوم في منزلنا هو كتاب الطبخ الضخم المزوَّد بصورٍ مغرية للوجبات المختلفة، وهو كتاب يحظى بعنايةٍ خاصة من زوجتي رعاها الله، وسدَّد على طريق الطبخ خطاها.
قلت له: دع المُزاح الآن، وابدأ أنت بالبحث عن الكلمة ثم أخبرني. بعد وقتٍ يسير هاتفني صاحبي قائلاً: والله لقد أدخلتني إلى عالم المتعة من أوسع الأبواب، وإني لأشعر الآن بنشوة المعلومات الصحيحة التي عرفتها الآن عما سألتك عنه. قلت له: تفضل فأنت الآن الأستاذ وأنا التلميذ، تنحنح مُعجباً بنفسه وقال: الشجن بالتحريك بالفتح الحاجة حيث كانت، والجمع شجون يعني حاجات، والشَّجن بالتحريك بالفتح أيضا الحزن، والجمع أشجان، وقد أشجنه أي: أحزنه، أمَّا الشجنُ بتسكين الجيم فهو الطريق في الوادي وجمعه شجون، وشجون الأودية طُرقُها المتفرِّعة التي يدخل بعضها في بعض، ومن هنا قالوا: (الحديث ذو شجون) أي يدخل بعضه في بعض ويتشابك، والشِّجنة عروق الشجر المشتبكة، ومنها شِجنةُ الرَّحم وهي القرابة المتشابكة كتشابك عروق الشجر، ومن ذلك ما ورد في الأثر (الرَّحم شِجنةٌ من الله) يعني أنها قريبة من الله عز وجل، مشتبكة كاشتباك العروق، ولهذا أمر الله بصلة الرَّحم ونهى عن قطيعته، وجاء التغليظ في ذلك في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
قلت لصاحبي: على رسلك بارك الله فيك، فإن وقتي الآن لا يسمح لي بأكثر من هذا، قال: أهنئك على استخدام هذا المثل استخداما صحيحاً، ولولا سؤالك عنه ما وقفت الآن منك موقف المعلم من التلميذ فانتبه جزاك الله خيراً فإن من علّمني حرفاً، صرت له عبداً.
قلت مبتسماً: أشكرك أيها المعلم القدير، وأرجو ألا تضع القاموس اللغوي بجوار قاموس الطبخ، فتطبخ لك زوجتك طبخةً لغوية تشبع عقلك، ولا تشبع بطنك.
هنا أقول للأحبة الكرام: لماذا لا نقوم بحملة إنصافٍ للكتب في منازلنا حتى نرقى بمستوى رجالنا ونسائنا في عصر المعلومات والمعارف والثقافة المنوَّعة؟!.
إشارة: