كُلّ أمر جديد في حياة الإنسان، له حلاوة في النفس، وإحساس في الوجدان، لأنّ طبيعة النّفس البشرية محبة التجديد، والإنس بإطلالة ذلك الجديد، غير شيء واحد نبّه إليه شاعر بقوله:
لكل جديد لذّة غير أنني رأيت جديد الموت غير لذيذ |
إلا أن لذّة قدوم الذي تتطلّع إليه بعض النفوس، وإطلالته على العالم الإسلامي، له لذّة لا تساويها لذّة، ولمقدمه نكهة وطلاوة، لا تماثلها نكهة تنتهي بسرعة، مع بروزها في قدوم ذلك الوافد، طمعاً في الهدايا، وسرعة الالتقاء بعد الغيبة، والتجمع بعد الفرقة، فقد كان سلف هذه الأمة، من محبتهم لرمضان، وإدراكهم منزلة الفرح بإطلالة هلاله، يسألون الله ستة أشهر بأن يبلغهم رمضان، وإذا خرج يتضرّعون إلى الله، أن يتقبل منهم، ما عملوا في رمضان، لأنهم يشغلون أيامه ولياليه بالأعمال الصالحة: البدنية واللسانية.
وما ذلك إلا أن طعم العمل فيه، والاهتمام باغتنام الفرص المتعددة فيه: ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فبالليل بالصلاة والدعاء، وبالسهر قياماً وتسبيحاً وتحميداً لله، وبالنهار: صياماً وتلاوة للقرآن وذكراً لله واعترافاً بفضله أن بلغهم رمضان ليؤدوا فيه الأعمال التي تتناسب مع قدسية هذا الشهر تنافساً شريفاً، وأداء براحة واطمئنان.
ذلك أن الراحة النفسية، بتلك الأعمال، تجعل المخلصين في هذا الشهر، يزدادون في العمل من دون سأم أو ملل، ويكثرون من ذكر الموت في حديثهم، وما بعد الموت استعداداً للقائه، لأنه مصير محتوم، كما يجب وفقاً لوصيته عليه الصلاة والسلام: (استعدوا للموت وما بعده) و(أكثروا من ذكر هادم اللذّات). فالاهتمام بالدعاء باللسان، وفي أثناء الصلاة تضرعاً ووجلاً، من الاستعداد المطلوب.
وإنّ من جدَّة هذا الشهر الحرص على اغتنام الفرص فيه، وتفريغ الجسد، وحواس البدن، للعبادة كل عضو بحسب مهمته، طمعاً في أجر مدخر، وبُعْداً عن المنهيات والمثبطات، وزيادة في رصيد الحسنات، لأن فرصة يجب أن تغتنم، وما يفوت منها لا يعوّض.
فالارتباط بالأعمال صغيرها وكبيرها بهذا الشهر المبارك، من لوازم هذا الشهر، ومنها الاهتمام بحفظ كل الوقت فيه، فهو ضيفٌ كريمٌ، يجب أن يكرم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأن، أوله رحمه، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، وأن أبواب الجنان فيه تفتح استبشاراً بعباد الله المستجيبين، وأبواب جهنم تغلق.
فالمسلم الصادق مع ربه، والمخلص في عمله، عندما يفرح بهذا الوافد الجديد، فإنه قد هيأ نفسه بالاستعداد، في عد الأيام والساعات الموصلة إليه، ومجهز قدراته لكي يغتنم فرص هذا الشهر، ومن ثم يزداد من الأعمال التي تريح نفسه، وترضي ربه، وتزيد رصيده، فإنّ خير الزاد التقوى.
ومع زيادة الأعمال، يأتي الإحساس بلذة الإيمان والعبادة، ويتجدد النشاط، برجاء من الله أن يكتبه من الفائزين، في هذا الشهر، وأن يعينه على شكره وعلى ذكره، وحسن عبادته، ليزداد اهتمامه بأمور منها:
1- المواظبة على صلوات الفريضة وفي أوقاتها.
2- الحرص على الزيادة في النوافل حتى يكبر رصيد الأعمال عنده.
3- حفظ اللسان عن الغيبة والنميمة وقول الزور، حتى لا يصوم عن الحلال ويفطر على الحرام.
4- إرخاء اليد بالبذل فيه زكاة مفروضة، وصدقة تطوّعاً.
5- الاهتمام بكثرة تلاوة القرآن الكريم، لأنّ بكل حرف حسنة، والحسنة تضاعف بالعشرات ثم المئات.
6- الإحسان إلى الجار والاعتذار عن الجفوة حتى تتجدد صفحة العلاقات ببركة هذا الشهر.
7- تجديد الصلة بالأقارب الذين يجمعهم النسب، والمجاورين الذين يربطهم المسجد.
8- الاهتمام بصلاة التراويح؛ لأن مَنْ قام مع إمامه حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة كما جاء في الحديث الشريف.
9- الاستفادة من روحانية هذا الشهر في أداء الأمانات، وإعادة الحقوق لأصحابها، وتصافي النفوس، والاهتمام بالأعمال المناطة بالإنسان، وعدم الغش في المعاملات، والبعد عن المعاصي والربا والفواحش؛ ما ظهر منها وما بطن، وتعويد اللسان الصدق في القول، وعدم البذاءة، وأن يكون رطباً بذكر الله: قائماً وقاعداً وفي أحواله كلها: حامداً وشاكراً، ومستغفراً ومسبحاً، وإبعاد الجوارح كلها والحواس عن المنكرات كل بحسبه، ألم يقل سبحانه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}(سورة الإسراء 36).
والإنسان عندما يدرك وظائف رمضان، والدروس التي يجب أن يدركها كل مسلم من روحانية رمضان، فإنها توجيه للآخرين دعوة وتبليغاً، بأهمية الاستفادة من نفحات رمضان؛ فهو ليس دعوة للجوع والعطش والنوم من دون وعي ولا إدراك، وإنما لكل عمل في رمضان كبر أو صغر، يُعطي الإنسان دروساً في المفهوم والسلوك، والارتباط والاستقامة، يجب أن تطبق بعد رمضان، حتى يصلح المجتمع، وتستقيم الأمة.
فقد أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمور هي من خصائص هذا الشهر، يبرز منها:
1- خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
2- للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه.
3- إن الله يكرم الصائم بأن نومه وجلوسه عبادة، لأنه يتقوى بذلك على طاعة الله.
4- إن مردة الشياطين تصفّد في هذا الشهر.
5- إن باب الريان في الجنة خاص بالصائمين ولا يدخل منه غيرهم.
6- إن كثيراً من المخلوقات تستغفر للصائمين حتى يفطروا.
7- إن الأعمال الخالصة لله تضاعف فيه للصائم.
8 - إن فيه ليلة هي خير من ألف شهر: أجراً وعبادة وهي ليلة القدر.
9- إن هذا الشهر أفضل الشهور.
10- إن داعياً من الله ينادي كل يوم: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر.
11- كثرة عتقاء الله في كل ليلة من النار.
12- إن مَنْ صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
13- ومَنْ قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه.
14- إن أحْرى ليلة القدر في العشر الأواخر.
15- إن الاعتكاف في آخره من آكد السن.
16- ومَنْ قام مع إمامه طوال الشهر حريٌّ أن يدرك ليلة القدر.
17- إن هذا الشهر فرصة للعصاة والمذنبين، بالتوبة إلى الله والعزم على ترك المعاصي، ومن ثم الاستقامة.
18- إن من أدرك شهر رمضان، وخرج ولم يغفر، فقد خسر ورغم أنفه.
وغير هذا من مصالح وفوائد؛ لأن هذا الشهر فرصة لا تعوض، فقد فرص على الأمم قبلنا فعصوا وابتعدوا، وفرض على هذه الأمة فاستجابوا وحرصوا، فكن يا أخي المسلم من المستجيبين العاملين لتفوز برضا الله وجنته.
الأمانة والصدق
الصدق والأمانة من الخصال التي يدعو لها دين الإسلام، والتمسك بهما دلالة على قوة الإيمان في القلوب، وهذه قصة رواها الإمام أحمد - رحمه الله - عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر: أن رجلاً من بني إسرائيل، سأل رجلاً آخر من بني إسرائيل، أن يسلفه ألف دينار فقال له: ائتني بشهداء أشهدهم عليك؟ قال: كفى بالله شهيداً، قال: ائتني بكفيل؟ قال: كفى بالله كفيلاً. قال: صدقت.. فدفعها إليه إلى أجلٍ مسمى.
فخرج الرجل في البحر، فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يقدم عليه ليدفع هذه الأمانة معهم فلم يجد، حِفَاظاً وأداء للأجل الذي أجّله.
لكنه تعب، ولم يجد مركباً ولا مسافراً، فأخذ خشبة فنقرها، وأدخل فيها ألف دينار؛ الدّين الذي عليه، وصحيفة كتبها إلى صاحب الدّين. ثم زجّج موضعها من الخشبة، وأحكمها عن الماء، ثم ألقى بها في لجّة البحر.
ثم قال: اللهم إنك قد علمت أني استلفت من فلان ألف دينار، فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بذلك، وسألني شهيداً، فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك, وإني قد جُهدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركباً، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر، حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده، فخرج الرجل الذي أسلفه، ينظر لعلّ مركباً يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطباً، فلما كسرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل الذي كان تسلّف منه، فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلت جاهداً في طلب مركب، لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركباً، قبل هذا الذي جئت فيه، قال: فإنّ الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرفْ بألفك راشداً. (البداية والنهاية 2: 139).
|