* إعداد: وسيلة محمود الحلبي
قدم ياسر إلى مكة المكرمة، وكان سبب قدومه إلى مكة أنه قدم هو وأخوان له، يقال لهما: الحارث ومالك، في طلب أخ رابع لهم، فرجع الحارث ومالك إلى اليمن، وأقام ياسر بمكة، فحالف أبا حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وتزوج امرأة يقال لها: سمية، فولدت له عماراً، فأعتقه أبو حذيفة، ومن هنا صار عماراً مولى لبني مخزوم، وأبوه عُرَنِيّ.
أما نسبه، فهو ياسر بن عمار بن مالك بن كنانة بن قبسي بن الحصين بن الوذين بن ثعلبة بن عوف بن الحارثة بن عامر الأكبر بن يام بن عنس بن مالك بن آرد بن زيد بن يشجب المذحجي ثم العنسي أبو اليقظان.
وجاء الإسلام فأسلمت الأسرة بأكملها، فكانوا ثلاثةً ضمن من أظهر إسلامه بمكة، وقد أسلم الابن عمار هو وصهيب في لحظة واحدة؛ حيث التقيا على باب الأرقم بن أبي الأرقم ورسول الله صلى الله عليه وسلم مُستخفٍ فيه في أول الإسلام، فدخلا سوياً وأسلما سوياً.
وقد تولى بنو المغيرة بن مخزوم عذاب الأسرة المؤمنة عمار وأبيه وأمه عذاباً لا طاقة لبشر على احتماله، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك لهم إلاَّ أن يقول لهم مبشِّراً: (صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة).
وذات يوم يدخل عمار بن ياسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي بكاءً مراً تكاد تخنقه عبراته، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (ما وراءك؟) قال: شرُّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: (كيف تجد قلبك؟)، قال: مطمئناً بالإيمان، قال: (فإن عادوا لك فعد إليهم).
وتلك رخصة سنّها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمن لا يقوى على العذاب من أهل الإسلام، فلا حرج أن ينطق بكلمة الكفر لكي يدرأ عن نفسه العذاب بشرط أن يطمئن قلبه ونفسه وجوارحه بالإيمان الصادق؛ فالعبرة بالسرائر، ولقد نزل قول الله عزَّ وجلَّ في هذا الشأن موضحاً: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 106). وأبلغت هذه الرخصة لسمية أم عمار رضي الله عنها وعنه فأبت أن تنطق بكلمة الكفر أبداً بعد أن شرح الله قلبها للإسلام، وقالت: (والله ما أنطق بكلمة الكفر بعد أن نجاني الله منه)، واستمرت في تحمّل العذاب حتى فقد المعذِّبون لها صبرهم، فطعنها أبو جهل بالحربة في قُبلها فقتلها، وأصبحت بذلك أول شهيدة في الإسلام، وأصبح الشرف كل الشرف لابنها عمار أن يطلق عليه لقب ابن سمية، ثم مات ياسر الأب في العذاب.
وعن عمر بن ميمون قال: أحرق المشركون عمار بن ياسر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به ويُمر يده على رأسه فيقول: (يا نار، كوني برداً وسلاماً على عمار كما كنت على إبراهيم عليه السلام، تقتلك الفئة الباغية)، ويتمكَّن عمار بن ياسر من الهجرة إلى المدينة المنورة ويلحق صلى الله عليه وسلم بمصعب بن عمير، ويتولى بناء مسجد قباء، وهو أول مسجد أُسِّس في الإسلام، ذلك المسجد الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنه: (مَن تطهَّر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمرة).
ويجاهد عمار في دين الله حق جهاده، فيشهد جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عن غزوة واحدة، ويشهد معه بيعة الرضوان، ويصير مثلاً وقدوةً للأمة الإسلامية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اهتدوا بهدي عمار)، ذلك الهدي الذي تشير عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى بعض أماراته وعلاماته بروايتها ذلك الحديث: (عمار ما عُرِض عليه أمران إلاَّ اختار الأرشد منهما)، وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله) رواه أحمد.
وينتقل الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى وعمار يحافظ على العهد طائعاً لأبي بكر الصديق منفذاً لأوامره.. وقام بقتل مسيلمة الكذاب في معركة قوية ضارية. ومرت خلافة الصديق والفاروق ثم ذي النورين عثمان بن عفان وعمار بن ياسر مثلٌ يُحتذى به في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته في كل مكان. وبعد ذلك ينضم عمار بن ياسر إلى جيش علي بن أبي طالب ويشهد موقعة الجمل ثم موقعة صفين التي استشهد فيها وهو يقول: اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه)، وحينها بكى معاوية وعمرو بن العاص؛ حيث انفجر باكياً وهو يقول: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
|