Saturday 16th September,200612406العددالسبت 23 ,شعبان 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الرأي"

أسباب الأمن الإعلامي في الفتح المبين أسباب الأمن الإعلامي في الفتح المبين
عبدالمؤمن بن عبدالله القين

سبحان من له أسباب الأمن في فتح مكة المبين، التي أقسم عز وجل بها فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} فهي المدينة التي سمّاها بتسمية الأمين من دون مدن وبلدان العالم كله.. وقد كان فتحها فتحاً مبيناً، أي: أن فيها بياناً لما يفعله الله تعالى بنبيه- صلى الله عليه وسلم- من مغفرة لما تقدم من ذنبه وما تأخر وإتمام لنعمته عليه وهدايته ونصره على الكفار(1)، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا. وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا}(2) وكذلك قوله: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا}(3)..
نزلت هذه الآيات وغيرها من سورة الفتح على النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو قافل بعودته من الحديبية إلى المدينة المنورة بعد أن رفضت قريش دخوله وأصحابه إلى مكة لأداء العمرة، وبعد أن وقع معها صلح الحديبية، فقال عليه الصلاة والسلام: (لقد أنزلت عليّ الليلة آية أحبَّ إلي مما على الأرض)، ثم قرأها على الصحابة، فقالوا: (هنيئاً مريئاً يا نبي الله لقد بيّن الله عز وجل ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟)(4)، فنزلت: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..} إلخ الآية.
إن النتائج مسبق علمها في هذا الفتح المبين، ومبشر بها- صلى الله عليه وسلم-، كما أن ما هو مطلوب عمله منه- عليه الصلاة والسلام- قال تعالى بشأنه: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}(5) وكانت سورة النصر هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، وقد قال عنها- صلى الله عليه وسلم-: (نُعيتُ إلي نفسي)(6) ومعناها: أي (أنك إذا فتحت مكة وهي قريتك التي أخرجتك ودخل الناس في دين الله أفواجا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى)(7).. وكمظهر لإنفاذ أمر الله صلى الله النبي- صلى الله عليه وسلم- صلاة الضحى ثماني ركعات، فسميت صلاة الفتح، وكان يكثر - بعد ذلك - من قوله: (سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه) ويقول في ركوعه وسجوده (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)، حيث رأى علامة الخبر في هذه السورة، فقال: (إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا)(8).. أما الأفواج التي دخلت في دين الله فتفسيرها أن أحياء العرب كان تتلوم - أي تمكث وتنتظر - بإسلامها فتح مكة معللة ذلك بأنه- صلى الله عليه وسلم- إذا ظهر على قومه فهو نبي، فلما فتح مكة في الثاني عشر من رمضان عام 8هـ دخلوا في الدين أفواجا.
ولكن إذا كان ما سبق هو نتائج الأمن الإعلامي في فتح مكة فما هي أسباب الأمن في هذا الفتح المبين؟ إن أول ما يصادف الباحث هو انعدام الأمن في الحرم حينما عدا قوم من بني بكر بن عبد مناة بن كنانة على رجل من خزاعة هو مالك بن عباد الحضرمي، مستخفّين بالعهد الذي بينهم وبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .(9) ولذلك خرج عمرو بن سالم الخزاعي في طائفة معه، وحينما وصل المدينة وقف مستغيثاً بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في المسجد بين ظهري الناس فقال:


يا ربّ إني ناشد محمداً
حِلف أبينا وأبيه الأتلدا
فانصر هداك الله نصرا اعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفا وجهه تربدا
إلى قوله: هم بيّتونا بالوتير هُجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا

فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (نُصرت يا عمرو بن سالم)(10).
وكان لابد لمواجهة انعدام الأمن في المسجد الحرام من إعادة هذا الأمن للبلد الأمين.. فعُرض لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنان من السماء، فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب، يعني خزاعة)(11).. وما لبث قليلاً حتى قدم بُديل بن ورقاء في نفر من خزاعة فأخبروه، فقال لهم: (كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد ويزيد في المدة) (12).. وهنا يمكن القول: إن النبوة لها خصائص إعلامية خاصة، حيث علّم الله نبيه - مقدماً - بمقدم أبي سفيان، وهذا ما يطلق عليه في المصطلح الإعلامي الإعلام المسبق، وهو سبب مهم للنصر والفتح.. لقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- نافذ الرأي والبصيرة، فأبو سفيان لم يشترك في صلح الحديبية فهو أقرب إلى الاشتراك في القتل من غيره، ولأنه كبير المقام فيهم فمن الوجاهة بمكان أن يأتي يشد العقد ويزيد في المدة، لماذا؟ لأن قريشاً (قد رهبوا الذي صنعوا)(13) هكذا كان تحليل الموقف عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، الذي لم يكتف بذلك، بل إنه حينما عزم الأمر وأمر بالجهاز، وأن يجهّزه أهله وأعلم الناس بأنه يريد مكة، قال: (اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم).(14).. وهذا ما يمكن تسميته بأمن المعلومات أو الأمن الإعلامي المتمثل في التكتم على الخبر ليتحقق عنصر المباغتة بعد ذلك حيث نزل- صلى الله عليه وسلم- بمرّ الظهران.
كما أخبر الوحي - أيضاً - أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مما كان من حاطب بن بلتعة الذي سرّب خبر المضي إلى مكة مع امرأة لحق بها علي بن أبي طالب والزبير بن العوام في روضة خاخ بالقرب من حمراء الأسد، فأخذا منها الكتاب الذي كتبه حاطب إلى قريش، وبذلك قضى النبي- صلى الله عليه وسلم- على ما يمكن أن يعرف بالاختراق الإعلامي من قبل العدو.
وأجاز النبي- صلى الله عليه وسلم- الحصول على المعلومات من الأسرى حيث أسلم منهم حكيم وبُديل فاستخبرهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أهل مكة، وتجسس القوم على أبي سفيان وهو جالس مع العباس قبل إسلامه، فلما نودي بالفجر، فزع أبو سفيان، ثم رآهم يمرّون إلى الصلاة، وأبصرهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي- صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا عباس، ما يأمرهم بشيء إلا فعلوه؟ ثم أسلم أبو سفيان وقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: (من دخل دارك يا حكيم فهو آمن)، وقال أيضاً: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وشهد أن محمداً عبده ورسوله، وكف يده، فهو آمن. ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن). (15) هكذا بدأ كلامه مع أبي سفيان بعبارات يختمها بالأمن مهدئاً من روعه..
ورأى أبو سفيان الجيش الإسلامي حينما أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بحبسه، فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هذا يا عباس؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد، وبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سعد بن عبادة بين يديه في كتيبة الأنصار، فقال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة حيث أحل الله مكة ساعة من نهار لنبيه- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في كتيبة الإيمان من المهاجرين والأنصار.. قال أبو سفيان: من هؤلاء يا عباس؟ قال: هذه كتيبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ومع هذه الموت الأحمر، هؤلاء المهاجرون والأنصار).(16) كان الفخر والتخويف متلازمين في الحرب النفسية التي ابتكرها الإسلام - لأول مرة - في فتح مكة، وتحول أبو سفيان من عدو إلى داعية إلى الله ورسوله فقال منادياً بمكة: (أسلموا تسلموا).(17)
حطم النبي- صلى الله عليه وسلم- الأصنام داخل وخارج الكعبة، وهو يقرأ قوله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}(الإسراء -81)، وقوله سبحانه: {قُلْ جَاء الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} سبأ- 49 وحينما دخل صناديد قريش الكعبة ظانين أن السيف لا يُرفع عنهم، سألهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما تقولون وما تصنعون؟) قالوا: نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم. فقال لهم: (أقول كما قال يوسف: { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ }( يوسف -92(*).
وهكذا يسطر الإسلام نتائج الفتح المبين بإزهاق الباطل، والعفو عند المقدرة فلم تسفك قطرة دم في فتح مكة عدا أربعة رجال (**) وامرأتين يضيق المجال عن ذكرهم، أما ما وقع من قتال بين خالد بن الوليد وقريش بعد أن التزم بنهي النبي- صلى الله عليه وسلم- عن القتال وكف يده ما استطاع فقد قال عنه الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (قضاء الله خير)(18). وقد كان للشعر دور في ذلك، حيث يقول حسان بن ثابت:


عدمت بنيتي إن لم تروها
تثير البقع موعدها كداء
ينازعن الأعنة مصحبات
يلطمهن بالخمر النساء
فإن أعرضتم عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعز الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا
وروح القدس ليس له كفاء

هكذا ضمّن حسان بن ثابت شعره توجيهات النبي- صلى الله عليه وسلم- حينما قال له: (اهجهم وروح القدس معك)(19)..
وهذا القتال لا شك إن كان استثناء في فتح مكة التي فتحت بالأمن الإعلامي والسكينة، حيث يقول الله تعالى: { فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} الفتح -36، وكلمة التقوى هي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، فسبحان من له أسباب الأمن كله، وهو القائل: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} البقرة -125، وقال أيضاً: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ} أي (انتعاشا) لهم أو (سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعُمار، أو ما يُقوّم به أمر دينهم ودنياهم).(20).
الهوامش
1- ابن كثير، ج4، ص462
2- الفتح 1-3
3- الفتح - 4
4- ابن كثير، 4، ص462
5- النصر 1 - 3
6- ابن كثير، 5، ص267
7- ابن كثير، 5، ص268
8- ابن كثير، 5، ص269
9- السابق، تاريخ الإسلام، المغازي، ص521 - 522
10- السابق، تاريخ الإسلام المغازي، ص522 - 523
11- السابق، تاريخ الإسلام المغازي، ص523
12- السابق، تاريخ الإسلام المغازي، ص523
13- السابق، تاريخ الإسلام المغازي، ص523 - 524
14- السابق، ص425
15- السابق، ص530 - 531
16- السابق، ص532
17- السابق، ص533
(*)- السابق، ص546
(**)- هم عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خطل وقينناه (فرتني وسارة)، ومقيس بن صبابة، وعبدالله بن أبي سرح. انظر: الذهبي، ص552
18- السابق، ص542
19- الذهبي، تاريخ الإسلام، ص542
20- البيضاوي، تفسير البيضاوي، ج1، ص284

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved