أصافحكم من جديد، وأمد يدي إليكم، وأفتح قلبي على مصراعيه لأحتويكم من خلال جريدتي الغالية الجزيرة وصفحة الرأي.. عطشى للبوح لكم.. فلكم مني التحية والسلام، ومرحباً بكم ألف مع هتاف العقل والضمير والفكر.. عدت إليكم بكل الحب والشوق.. أرجو أن تقبلوني..
قالت الكاتبة مي زيادة: (أتمنى أن يأتي بعدي.. بعد موتي من ينصفني ويستخرج من كتاباتي الصغيرة المتواضعة ما فيها من روح الإخلاص والصدق والحمية والتحمس لكل شيء حسن وصالح وجميل لأنه كذلك لا عن رغبة في الانتفاع به). تلكم هي الكلمات التي نطقت بها المبدعة مي زيادة التي ارتاد صالونها الأدبي أهم كُتّاب ومفكري وساسة النصف الأول من القرن العشرين، فالكاتبة مي بمؤلفاتها وشخصيتها ذات الحضور كانت محور دراسات كثيرة عنها.. فما أكثر ما كتب عن فنها وكتاباتها، وعن صالونها الأدبي لشخصيتها وجاذبيتها وثقافتها التي من أجلها كانت موضع تقدير واحترام الجميع.
وقد تحدث كتاب (جنون امرأة) للكاتب خالد غازي عن مولدها ونشأتها وثقافتها منذ مولدها في الناصرة بفلسطين إلى حضورها مع والدها إلى القاهرة ودورها في الحياة الثقافية المصرية، بما ألفته من كتب، بالإضافة إلى صالونها الأدبي الذي كان يتردد عليه كبار أدباء مصر ومفكريها.
ويبدو أن شخصية مي زيادة كانت شخصية قوية آسرة، بدليل تلك الدراسات الكثيرة التي تناولت حياتها ودورها في الحياة المصرية، وركزت معظم الدراسات على الذين هاموا بها حباً.. قالوا: (إن العقاد أحبها)، وقالوا: إن لطفي السيد كان شديد الإعجاب بها، وكذلك مصطفى صادق الرافعي والشاعر إسماعيل صبري، ولكنها لم تحب حباً حقيقياً إلا إنساناً لم تره طوال حياتها وهو جبران خليل جبران، والدليل على ذلك (رسائلهما المتبادلة) التي تفيض حباً وشوقاً ومصارحة.
صحيح أن جبران كانت له قصص مع سيدات قبل مي، وكان يعاني من آلام الوحدة والقلق النفسي الذي لا يدري كنهه، ولكن عندما صدر كتابه (الأجنحة المتكسرة) عام 1913هـ، أهدى نسخة منه (لمي) فقرأته بمنظور الأديبة والناقدة، وانتقدت (مي) جبران في مفهومه للزواج، حيث تقول في إحدى رسائلها (إننا نتفق في موضوع الزواج يا جبران، أنا أحترم أفكارك وأجل مبادئك؛ لأنني أعرفك صادقاً في تعزيزها، مخلصاً في الدفاع عنها، وكلها ترمي إلى مقاصد شريفة، وأشاركك أيضاً في المبدأ الأساسي القائل (بحرية المرأة).. فمثل الرجل عيب أن تكون المرأة مطلقة الحرية بانتخاب زوجها من بين الشباب متبعة في ذلك ميولها وإلهاماتها الشخصية، لا مكيفة حياتها في القالب الذي اختاره الجيران لها والمعارف، حتى إذا ما انتخبت شريفة لها تقيدت بواجبات عند الزواج تعد المرأة بالأمانة، والأمانة المعنوية تضاهي الأمانة الجسدية أهمية وشأناً).
ولا شك أن الرسائل المتبادلة بين جبران خليل جبران ومي زيادة عبارة عن قطع أدبية رائعة.. يَكْتُب لها - مثلاً - بعد نقد (مي) لكتاب (المواكب):
(ولقد انصرفت عن كل ما وجدته بانتظاري في هذا المكتب لأصرف نهاري بكامله مصغياً إلى حديثك، ذلك الحديث المتراوح بين العذوبة والتصنيف، وإنني وجدت بعض الملاحظات التي لو سنحت لنفسي الفرصة أن تتألم لتألمت منها، ولكن كيف أسمح لنفسي بالنظر إلى شبه سحابة في سماء صافية مرصعة بالكواكب؟ وكيف أحول عيني عن شجرة الياسمين المزهرة إلى ظل أحد أعضائها؟ وكيف لا أقبل وخزة صغيرة من يد عطرة مفعمة بالجواهر؟.
إن حديثنا الذي أنقذنا من سكون خمسة أعوام لا ولن يتحول إلى مناظرة، فأنا أقبل كل ما تقولينه لاعتقادي بأنه يجمل بنا، وسبعة آلاف ميل تفصلنا، إلا نضيف إلى هذه المسافة الشاسعة متراً واحداً، بل أن نحاول تقصيرها بما وضعه الله فينا من الميل إلى الجميل، والشوق إلى المنبع، والعطش إلى الخالد. يكفينا ما في الأيام والليالي من الدموع والأوجاع والمتاعب والمصاعب. إن مَنْ يستطيع الوقوف أمام المجرد المطلق لا يلتفت إلى كلمة جاءت في كتاب أو ملاحظة أتت في رسالة. إذاً، لنضع خلافاتنا - وأكثرها لفظية - في صندوق من الذهب، ولنرم بها إلى بحر من الابتسامات.
ما أجمل رسالتك يا مي وما أثمرها، فهي مثل نهر من الرحيق يتدفق من الأعالي ويسير مترعاً في وادي أحلامي، بل هي كالأوتار).
ومن الرسائل الجميلة التي أرسلتها مي إلى جبران تلك التي تقول فيها: (أريد أن تساعدني وتحميني وتبعد عني الأذى، ليس بالروح فقط، بل بالجسد أيضاً، أنت الغريب الذي كنت لي - بداهة وعلى الرغم منك - أباً وأخاً ورفيقاً, وكنت لك أنا الغربية - بداهة وعلى الرغم مني - أماً وأختاً، حدثني عنك وعن صحتك، واذكر عدد ضربات قلبك، وقل لي رأي الطبيب، افعل هذا، ودعني أقف على جميع التفاصيل كأني قريبة منك، أخبرني كيف تصرف نهارك، أتوسل إليك أن تتناول الأدوية المقوية مهما كان طعمها ورائحتها، فمن هذه المقويات ما هو ضروري كل الضرورة، مفيد كل الإفادة، وكل ما تفعله لوقاية نفسك أحسبه أنا لك، يداً علي، وأشكرك لأجله لكل ما في قلبي من صداقة ومودة. أرسل لي سطراً أو سطرين من أخبارك بلا اجتهاد). إذ كان جبران يشكو من علة في قلبه، ويتمنى جبران لو كان في مصر حتى يكون قريباً من مي.
يقول في إحدى رسائله (هذا لو كنت مريضاً في مصر، حبذا لو كنت مريضاً بدون نظام في بلدي، قريباً من الذين أحبهم، أتعلمين (يا مي) أني في كل صباح ومساء أرى ذاتي في منزلي في ضواحي القاهرة، وأراك جالسة أمامي تقرئين آخر مقالة كتبتها، وآخر مقالة من مقالاتك لم تنشر بعد).
ومن المعروف أن مي زيادة أرسلت إليه ليزور مصر، فقالت في إحدى رسائلها (تعال يا جبران وزرنا في هذه المدينة (القاهرة)، فلماذا لا تأتي وأنت فتى هذه البلاد التي تناديك)، ولكن جبران لم يلب النداء.
هذا، وكان صالون (مي) يمتلئ بكبار رجال عصرها من الصحفيين والكُتّاب والأدباء والشعراء، وكان كل واحد من رواد هذا الصالون يتصور أن (مي) تكن له عاطفة خاصة، ولعل أجمل تصوير لهذه الندوات وما كان يدور بها ما كتبه العقاد الذي كانت بينه وبين (مي) رسائل متبادلة.. إنه يصف هذه الندوة ومن يحضرها من هؤلاء الصفوة بقوله: (ولكل منهم أسلوبه في تعبيره داخل هذا الإطار من التحية.. لطفي السيد وأسلوب الجنتلمان، وعبدالعزيز فهمي وأسلوب الصمت والخجل، وكأنه الصبي في مجلس الفتيات القريبات، وأنطون الجميل وأسلوب بائع الجواهر في معرض الهوانم، وشلبي شعيل وأسلوب المصارع في حلبة الفكر والشعور، وخليل مطران وأسلوب مولير على غير التمثيل، وسليم سركيس وأسلوب الدعاية للبيوتات في صالون من أشهر صالونات البيوتات، ومصطفى صادق الرافعي وأسلوب المفاجآت بالكتابة الذي يفي الاطلاع عليها من السماع، واسماعيل صبري وأسلوب الشعر الذي يعلم أن حق الغزل الصريح أولى بالرعاية من حق الكتابة والتصحيح، وأحمد شوقي وأسلوب الإيحاء من بعيد، وعليه تعليق الفيلسوف المعجب بالطرفين).
ورغم كل المعجبين إلا أن (مي) كانت تحب جبران.. ولا ننسَ أنه عندما تناهى إلى سمعها رحيل جبران فقدت آخر أمل لها في الحياة فأصيبت بالوساوس التي انتهت بها إلى عالم بعيد عن عالم العقلاء.
ولا شك أن (مي زيادة) كانت صورة حية للإنسان في لحظات قوته، ولحظات ضعفه، في تألقه وفي أفوله، في تطلعه إلى الغد المشرق وفي تهاويه عندما تقلب الحياة له (وجهها). ولقد عاشت مي على القمة وهبطت إلى السفح، لكنها تركت فراغاً من الصعب أن يزول.
كلمة صدق
وعدت إليك يا رياض.. يحدوني الأمل..
بلقاء القراء الكرام بعد فترة ليست بالطويلة، كنت أضمد فيها جراح أخي البالغة.. الذي ما زال يعاني من آلامها المبرحة، وصراخه يتردد عبر الصحاري في عودتي البرية من دمشق إليك يا رياض.
وعدت إليك (يا جزيرتي العزيزة)، يا مرتع صباي وحبي وآهاتي وأشجاني وأفكاري وتجاربي وعطائي..
أصافحك من خلال هذا المقال الثقافي الذي يتحدث عن رسائل مي زيادة وجبران خليل جبران.. لعلها تكون بداية جادة أخاطب فيها العقل والفكر والوجدان..
وعدت إليك يا مكتبي المبعثر ويا أوراقي الكثيرة المبعثرة ويا فاكسي ويا حبري ويا قلمي.. لعلي أستطيع العطاء رغم كل الألم والأحزان..
أصافحكم أعزائي من خلال صفحة الرأي الغالية في جريدة الجزيرة الغالية.. وأمد يدي أهنئ الجميع بالعام الدراسي الجديد، وعودة حميدة للجميع.
لحظة صدق
جريدتي الغالية.. حين زرعتك في قلبي كانت اللحظة بدء وجودي.. كنت أعرف أن حبك يكبر، كنت ولا زلت زنبقة على الضفاف، وكان دمي هو النبع والنهر، كنت ولا زلت قمراً وفيروزاً، وحلماً وطيفاً أطارده كل ليلة عبر الأحلام ألف ميل ولا أتعب!!!!..
ومضيت عبر جنون الأميال والصحاري والقفار وبُعد المسافات وأنا كالطائر المذبوح أبحث عنك في كل الدروب وفي كل ورقة مطوية، وفي ألوان الطيف وعلامات الدروب، وفي ثنايا قلبي وفيض مشاعري لأنشد عبر صفحاتك الراحة والسعادة، ومع قرائك الأُنس والمودة والصدق والصراحة..
أصافحك يا جريدتي الغالية، وأصافح كل من يحتويك بإخلاص، فازرعيني ياسمينة على بابك.. أو دالية عنب على شرفاتك؛ فحبي إليك كبير.. كبير.
ص. ب 40799 الرياض 11511 |