سعادة رئيس تحرير جريدة الجزيرة سلمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد:
فقد قرأت في جريدتكم الموقرة في صفحة المقالات مقالاً بعنوان (منابر المساجد)، لكاتبه محمد بن عبداللطيف آل الشيخ.
وحيث إن المقال المذكور قرّر فيه كاتبه أحكاماً ليست عادلة على منابر المساجد، كان لي بعض الوقفات اليسيرة معه، فأقول وبالله التوفيق:
الوقفة الأولى:
قوله (لم يكن المسجد في يوم من الأيام محل (تحريض)، أو تصفية حسابات، ولم تكن خطبة الجمعة خطبة في (السياسة) أو النقد.
فأقول: الذي يقرأ التاريخ بإنصاف يعرف أن الأمة مرت بأزمات، وفتن، ومراحل، صار فيها المسجد عموماً، ومنبره خصوصاً: (في خطبة الجمعة وغيرها) مكاناً لخدمة الأغراض السياسية، والتصفيات الشخصية، ولو ذهبت أضرب الأمثال، وأسوق النماذج، لاحتجت إلى مقالات كثيرة، فأين هو عن خطب الخلفاء والأمراء الذين يسعون لتوطيد سلطانهم، وذمِّ خصومهم؟ بل أين هو عن خطب الخوارج والبغاة المنشقين على ولاة أمورهم؟ بل إن هناك خطباً سياسية لأمراء شرعيين انطلقت من المساجد حفظها التاريخ، فاقرؤوا على سبيل المثال خطبة زياد بن أبيه البتراء على منبر مسجد البصرة وهو أمير لمعاوية رضي الله عنه، وخطبة الحجاج بن يوسف الثقفي على منبر مسجد الكوفة وهو أمير لعبد الملك بن مروان رحمه الله، ونحو ذلك.
وأنا حين أورد هذا الكلام القصد الوحيد منه هو إثبات ما قرّره الكاتب، والتاريخ سجل حافل بالأحداث والوقائع المفرحة والمحزنة.
ومما يحسن التنبيه له أن (التحريض) يكون في الخير ويكون في الشر، لأنّ من أظهر معانيه الحث، والله جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}، ويقول جل وعلا: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ}، وبالتالي لا بأس أن يكون في المسجد تحريض لكن بالحق لا بالباطل، ولا بأس أيضاً أن تكون خطبة الجمعة في السياسة، وما المانع أن تكون كذلك إذا ما اقتضى الأمر، ودعت الحاجة؟، كأن ينشق منشق على ولي الأمر، أو يخرج عليه خارج، أو يمرق مارق، فيهب أهل الطاعة والولاء، من علماء وخطباء، لتثبيت الناس على طاعته، وأمرهم بالوفاء والبقاء على بيعته، ونبذ الفرقة والخلاف، ومواجهة أهل الظلم والإجحاف، والمهمة هذه يحتاج القائمون بها لإيراد نصوص الطاعة، وسرد نصوص الاتباع، وهل هذا إلا من السياسة التي قرّرها الدين الحنيف، وأمر بالالتزام بها، أما عزل الدين عن السياسة، وإبعاد الدين عن الدولة، فذاك منهج الضالين، وطريق الغاوين.
الوقفة الثانية:
قوله: (ولم يذكر لنا التاريخ أن منبر الجمعة استغله المعارضون لفرد عضلاتهم، والمزايدة على السلطة، أو على قرارات أجهزة من أجهزتها).
فأقول: ها هو التاريخ يسجل نموذجاً حياً بأنك استغللت زاويتك المتنقلة، لإبراز عضلاتك، والمزايدة على جهاز من أجهزة الدولة الرسمية (وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد) التي تتبع لها المساجد التي فيها المنابر موضوع مقالك، فما تفسيرك لذلك؟ أهو من مخالفة القول للفعل، والشاعر العربي يقول:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيم؟
الوقفة الثالثة:
قوله: (وكانت النصيحة التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف عن (التعيير) أو (التوبيخ) أو (التحريض)، كان لها أصولها، وأسسها، ومحاذيرها).
فأقول: كلامٌ جميلٌ يكتمل جماله، وينتظم عقده، بتطبيقه في أرض الواقع، وجعله منهجاً ينتهجه المرء مع غيره أياً كانت العلاقات، ثم ليته تكرّم علينا بما أنعم الله عليه من علم ومعرفة، وأفاض علينا بما وهبه وحباه من فهم وحكمة، فشرح لنا مشكوراً تلك الأصول، والأسس، والمحاذير، حتى إذا صعدنا المنبر نكون على بينةٍ من أمرنا فلا تزلّ بنا القدم، ونتخذها نبراساً يضيء لنا الدرب فلا تكون منا سقطة لسان! وسؤال سريع: هل مقاله هذا نصيحة؟ فإذا كان كذلك، فهل خلا من التعيير والتوبيخ والتحريض؟ وهل جمع الأصول والأسس واجتنب المحاذير؟
لكن صدق الحق: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
الوقفة الرابعة:
قوله: (كما أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يتذرع به بعض (الانتهازيين) من خطباء المساجد اليوم، كان أداة تنفيذية بيد ولي الأمر الذي بيده السلطة، وليس بيد كل من هب ودب، لذا فالمحتسب (الرسمي) في الإسلام لا تنعقد له ولاية (صلاحية)، إلا بتعيين ولي الأمر).
فأقول:
- أولاً: قوله (كان أداة تنفيذية بيد ولي الأمر الذي بيده السلطة، وليس بيد كل من هبّ ودبّ) يفيد الماضي، ومفهوم المخالفة أن الحال الآن مجرد فوضى، فهل هو يعتقد ذلك؟).
- ثانياً: هل مقاله هذا احتسابٌ وإصلاح؟ فإن قال نعم، فأقول: هل انعقدت له من ولي الأمر فيه ولاية (صلاحية)؟ لا أظن ذلك، فإن قال: مقالي هذا ليس احتساباً رسمياً بل هو تطوعي، قلت له: إذا كان يسعك أن تقوم بالاحتساب التطوعي فإنه يسعُ غيرك، ما دام أنه لا يفتقر إلى انعقاد ولاية من قبل ولي الأمر، أو يجوز لك ما لا يجوز لغيرك؟! هذا إذا سلمت بأن ما قلته أصلاً ينطبق عليه لفظ (الاحتساب)، وللمعلومية أن الاحتساب الرسمي والتطوعي بينهما فروق كثيرة ذكرها أهل العلم لا يتسع المقام لذكرها، فإن قلت: هذا المقال ليس من قبيل الاحتساب، بل هو مجرد نصيحة، وتلك وجهة نظري، قلت لك: فأين تنظيرك للنصيحة الخاصة وأنها لا تكون على الملأ؟
وأذكِّرك بأن خطباء المساجد الذين هم موضع اتهامك، قد انعقدت لهم من قبل ولي الأمر صلاحية بالخطابة، بمجرد تعيينهم.
الوقفة الخامسة:
قوله: (أما اليوم، وفي ظل هذه الفوضى الفكرية العارمة، وامتطاء الدين كوسيلة، تحول المنبر إلى أداة (سياسية)، بها، ومن خلالها يجري التحايل على نظرية (طاعة) ولي الأمر في الإسلام، والتحريض عليه، وتجييش الناس على أجهزته).
فأقول:
- أولاً: هذا اتهامٌ عام، وهو مخالفٌ لمنهج القرآن، فحين تحدث جل وعلا عن أهل الكتاب، قال: {مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}. وقال جل وعلا {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}. وقال جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ}، فهل كل الخطباء عند الكاتب هكذا؟ وهل كل المنابر في نظره كذلك؟ هل منبر المسجد الحرام هكذا؟ وهل منبر المسجد النبوي كذلك؟ إن هذا الحكم العام يحق لنا أن نقول: إنه حكم جائر لا يقبله العقلاء، ولا يستسيغه الفطناء.
- ثانياً: أطالب هذا الكاتب أن يثبت هذا الكلام، وأن يضرب لذلك المثال، كما يطالب غيره بالأمثلة في آخر مقاله، لأن إلقاء الكلام، ونسج الاتهام، سهلٌ ميسورٌ على بعض النفوس، لكن إثباته عسيرٌ غير يسير.
- ثالثاً: إذا ثبت ما ذهب له الكاتب أو ثبت بعضه فالأولى أن يقوم بتطبيق أسلوب النصيحة الخاصة (السرية) التي دعا إليها، وشدّد على الالتزام بها، فإن لم تجد نصيحته آذاناً صاغية، فليبلغ الجهات المختصة بذلك، ولا يجوز له السكوت بحال، لا أن يُشهِّر ويُعيّر، ويجعل العدو يشمت ويفرح.
- رابعاً: إذا لم يثبت ذلك، فهو قبل أن يكون اتهاماً لخطباء المساجد، هو اتهامٌ لأهل المسؤولية، بالتساهل أو قل: التجاهل لمثل هذه الأخطاء الفادحة، والتجاوزات الخطرة، لأنه لا يُعقل أن هذه الأفعال التي يزعمها الكاتب لو كانت صحيحة أن تتضح له وتخفى على أهل المسؤولية.
- خامساً: أن وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد لها جهدٌ عظيمٌ، ومنهج مبارك، في تعيين الأئمة والخطباء والمؤذنين، من خلال شروط لا يتم إصدار أي قرار تعيين إلا بتوفرها، بل هناك المتابعة المستمرة لأولئك حتى بعد التعيين، فضلاً عن تلك التعاميم التي تصدر بين الفينة والأخرى لأولئك والتي تحمل في طياتها توجيهات رشيدة، وتعليمات سديدة، تأمر بالخير، وتعين على البر والتقوى، فهل يليق أن تنكر تلك الجهود عن طريق مقال لم يتكلف له صاحبه جهداً، ولم يحسب له حساباً؟
- سادساً: الواقع المشاهد يكذّب هذا الاتهام الجائر، فعلى سبيل المثال: عَلِم الكثير أن بعض المنابر كانت صوتاً رئيساً في إنكار التفجيرات التي ابتليت بها بلادنا، فما باله يغمض عينيه؟ ويصمّ أذنيه عن تلك المساجد الكثيرة، والخطب العديدة، والتي جاءت صوتاً واحداً لإنكار ذلك، فلم يخالف الواقع؟ ويكذب المشاهد؟ وعلى أقل الأحوال فبين يديه أثارة من تلك الخطب قد بثت في بعض وسائل الإعلام، ونشرت في بعض الصحف، وليته إذ أمسك عن الإشادة ببعض منابر الجمع كصوتٍ رئيس في إنكار ذلك المنكر، ليته وقف عند هذا الحد فحسب، لكنه أضاف لذلك الصمت، بوضع أسباب غير صحيحة، فقلب وجه الحق باطلاً، وأحال عذبه ملحاً أجاجاً، إنه لو نظر نظرة مخلصة لارتاد نظره مواقع الخير، ولنشد مطالع الهدى، إنه لو فعل ذلك وأخلى نفسه من بعض أهوائها لرأى وجه الحق مضيئاً في خطب كثيرة، لمساجد عدة، ندّدت، وأنكرت، وخطّأت، وحرمت تلك الأفعال السيئة، لكن تقليب الكلام عند البعض هو تجارته الرابحة، وبضاعته الرائجة، لا يتكلف له جهداً، ولا يبذل فيه مالاً، فما هو إلا كلام يكتب، وأخبار تدون.
أما قوله: (وتجييش الناس على أجهزته) فماذا يسمي هذا الفعل؟
الوقفة السادسة:
قوله: (وأنا هنا لا أدعو إلى تكميم (الأفواه) وحاشا أن أطالب بإسكات النقد).
فأقول: سواء أدعوت إلى ذلك وطالبت، أو لم تكن من الداعين والمطالبين أعتقد أن الأمر سيّان.
الوقفة السابعة:
قوله: (إنما يجب أن نرتقي بالمسجد عن (المهاترات) والمساجلات).
فأقول:
- أولاً: حجّرت واسعاً فيجب أن نرتقي بالمسجد وغير المسجد عن المهاترات ونحوها، لأن ديينا دينٌ شامل، والأخذ بتعاليمه، وتطبيق أوامره، واجتناب نواهيه، عام في كل الأماكن، وجميع المواقع، مع تسليمنا بأن للمساجد أحكاماً خاصة تميزها عن سائر المواضع، لكن هناك أمور ينهى عنها في المواضع كلها المساجد وغيرها، ومنها ما طالبت تطهير المساجد منه كالمهاترات، لأن المهاترات غير مرغوبة إطلاقاً لا في المسجد ولا في غيره.
- ثانياً: العجيب الغريب أن مقصوده بالمهاترات والتي يرغب أن يرتقي بالمسجد عنها فحسب هي ما عبّر عنه بقوله: (التحايل على نظرية (طاعة) ولي الأمر في الإسلام، والتحريض عليه، وتجييش الناس على أجهزته)، فهل يكفي أن ننهى عن التحايل على نظرية طاعة ولي الأمر في الإسلام، والتحريض عليه، وتجييش الناس على أجهزته في المساجد فحسب؟، أم في كل زمان ومكان، أم للكاتب رأي آخر؟
الوقفة الثامنة:
قوله: (وهناك وسائل أخرى للنقد غير خطب الجمع لو كانوا صادقين).
فأقول: منطوق كلامه يُحرِّم النقد في خطب الجمع، ويبيحه في الوسائل الأخرى مطلقاً، فلو كان مصيباً لما أجاز وأباح النقد في الوسائل الأخرى على إطلاقه، لأن النقد المسموح به هو النقد البناء، النقد الذي اتصف بالأساليب الشرعية، والآداب المرعية، وهذا يدل على أن إنكاره على بعض هؤلاء الانتهازيين (كما وصفهم) ليس إنكاراً موجهاً لمضمون نقدهم، بل هو إنكارٌ موجه للوسيلة التي استخدموها للقيام بهذا النقد والنطق به وهي وسيلة المنبر، وأنهم لو قاموا بنقدهم ذلك من خلال وسيلة أخرى غير المنبر لكان نقدهم مقبولاً عنده، سائغاً لديه، فإن كان يعتقد ذلك فتلك مصيبة، وإن كان لا يعتقده وقد قرّره فالمصيبة أعظم.
الوقفة التاسعة:
قوله: (والمتتبع (لتاريخ) خطبة الجمعة في الإسلام، لن يجد هذه النبرة السياسية التي يمارسها (خطباء) المساجد هذه الأيام).
فأقول: هذا أسلوب تعميم وقد تقدم تخطئة ذلك، ثم كيف عرف أن خطباء المساجد هذه الأيام كلهم يفعلون ذلك؟، هل أعدّ في ذلك دراسة ميدانية؟ أم أنه يُصلي في آن واحد في مساجدَ عدة؟!.
الوقفة العاشرة:
قوله: (فلم تكن (قط) وسيلة من وسائل النصيحة (الخاصة) التي نادى بها الإسلام، لأن الأصل في (النصيحة) الخاصة أن تكون سرية وأخوية بينما خطبة الجمعة (علنية)، يسمعها القاصي والداني).
فأقول:
- أولاً: الضمير حتماً يعود لخطبة الجمعة، إذاً ما الرابط بين لفظه (النبرة السياسية) ولفظه (النصيحة الخاصة)؟.
- ثانياً: بغض النظر عن تقريره بأن خطبة الجمعة يجب أن تكون خالية من النصيحة الخاصة وهو كلام ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل ليس هذا محله، والنصوص الشرعية هي الحكم في ذلك لا آراء الرجال، وحيث لم يوضح لنا حدود النصيحة (الخاصة) والمقصود بها والممنوع منها في خطبة الجمعة، فلا أستطيع مناقشة كلامه لأنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره. إلا أني أقول: النصيحة (الخاصة) الموجهة لشخص بعينه، أو فئة بعينها، أو جهة باسمها، لا تكون على الملأ، سواء كانت على منبر المسجد أو أي وسيلة أخرى، وهذا ما لم يلتزم به الكاتب، ما عدا التعريض حيث صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال على المنبر غيرَ مرّة (ما بال أقوام).
- ثالثاً: إذا كان الأصل في النصيحة الخاصة أن تكون سرية وأخوية فلِمَ لم تطبق ذلك مع خطباء المساجد؟، حيث تقدمت لهم بمقالك لا أقول: بفضيحةٍ، بل بشنيعةٍ، لأن ما قلته لو كان صحيحاً لأضحى فضيحة، كيف وهو مجانبٌ للحقيقة.
- رابعاً: خطبة الجمعة صحيح أنها علنية، لكن ليست كما قلت يسمعها القاصي والداني، بل يسمعها الحاضر وهو بمثابة الداني، أما القاصي فسماعه لها بشرط أن تكون مبثوثة سماعاً ورؤية، أو سماعاً فقط، أو مسجلة صوتاً وصورة، أو صوتاً فقط، فكن دقيقاً في الكلام، ولا تحاول أن تقدم عبارات مشهورة وهي لا تخدمك.
- خامساً: إذا كنت لا تجيز النصيحة الخاصة في خطبة الجمعة وهي اتصال جَمعيّ، فكيف تجيزها لنفسك عبر اتصال جماهيري، يتمثل بجريدة سيارة يقرؤها الملايين.
الوقفة الحادية عشرة:
قوله: (وقد يستغلها الانتهازيون، فتكون وسيلة لنسف (نظرية الطاعة) في الإسلام، التي هي أساس الاستقرار في مجتمعاتنا، وطاعة ولي الأمر هي الأصل الشرعي في ضرورة الامتثال لما تصدره (الدولة) من أنظمة وتعليمات).
فأقول: تقول: (وقد يستغلها الانتهازيون...) يعني أنهم لم يفعلوا ذلك بإقرارك وقولك، لكنك أثبتّ بفعلك عن طريق هذا المقال أنك استغللت زاويتك، وانتهزتها للاتهامات الباطلة، فمن يكون إذا الاستغلالي الانتهازي؟
الوقفة الثانية عشرة:
قوله: (ولعل ما نعانيه اليوم من الإرهاب والإرهابيين، كان نتيجة بشكل أو آخر (لتساهلنا) في مواضيع خطب الجمع، وتسييسها، بل وتسييس ما يدور في المساجد، بعيداً عن الرقيب والحسيب. وهنا مربط الفرس ومصدر الخطورة).
فأقول:
- أولاً: عرفنا ما تقصده من (مواضيع خطب الجمع) لكن لم نعرف ما تقصده من (تسييس ما يدور في المساجد)؟
- ثانياً: هل تعتقد أن ما نعانيه اليوم من الإرهاب والإرهابيين كان نتيجة بشكل أو بآخر لتساهلنا في مواضيع خطب الجمع فقط؟ وأن السبب الرئيس هو ذلك فحسب؟ فإن قلت: نعم، قلت لك: من أين لك هذا العلم، والوحي (الحق) لا ينزل إلا على الأنبياء، والنبوة قد ختمت برسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحي (الحق) قد انقطع بموته؟ أم أنت من أصحاب الأمر والنهي الذين ترفع لهم نتائج التحقيق، وترد لهم الأمور، ويطّلعون على دقائقها مما لا يطلع عليه غيرهم، وبالتالي إذا نطقوا نطقوا عن علم ومعرفة؟ أقول: الكل يعرف بأنك لست منهم.
- ثالثاً: أما زعمك بأن ما يدور في المساجد بعيد عن الرقيب والحسيب فهذا من القول بلا علم، بل هو مخالف للواقع المشاهد، وتهميش وإلغاء للدور الكبير الذي تقوم به وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في متابعة الأئمة والخطباء، والمؤذنين ونحوهم.
- رابعاً: أما قولك: (وهنا مربط الفرس) ما سبب إيرادها وإقحامها في هذا السياق؟ خاصة أنك أطلقت صفارات الإنذار بعدها بقولك: (ومصدر الخطورة)، وبالتالي اضمحلت الاستفادة من مرادها، وتلاشت الحاجة من إيرادها، أم أنها لفظة مشهورة شائعة أعجبتك، فتتيَّمَ قلبك بها، وهامت نفسك بحبها، فأحببت أن ترصّع بها مقالك؟، كما هو حال اللفظة السابقة: (القاصي والداني).
الوقفة الثالثة عشرة والأخيرة:
قوله: (يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - عن (النصيحة) التي يتذرع بها بعض الخطباء:
تعمدني بنصحك في انفراد
وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع
من التوبيخ لا أرضى استماعه
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد:
(يقصد بها - أي خطبة الجمعة - الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنابه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع إليها). انتهى.
وقد تولى الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مسؤولية الخطابة في مسجد الإمام تركي بن عبدالله في مدينة الرياض مدة طويلة، ولم يذكر عنه أنه حول المنبر إلى وسيلة للمطالبات، أو لنصيحة (علنية) لولي الأمر، كما لم ينتقد ويعرض بأحد من وزرائه، أو جهاز من أجهزته قط، وهكذا كان أسلافه - رحمه الله - من قبله.. ويستحيل على من حولوا منابر المساجد إلى مهاترات، ومطالبات، وانتقادات، وتعريض بهذا أو ذاك، أن يقدموا دليلاً واحداً له رحمه الله، شنع فيه على أحد بعينه، إن تلميحاً أو تصريحاً أو حرض، أو طالب، أو نصح نصيحة (خاصة) لولي الأمر، أو العاملين في أجهزته.. وعندما توفي - رحمه الله -، وطبعت أعماله، ونشرت، رأينا كيف كانت (المناصحة) من خلال مكاتباته لولاة الأمر، وكيف كان عالماً لا يخشى في الله لومة لائم، لكنه كان يعي أن (المناصحة)، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها أساليبها وطرقها ومناهجها.
أما السبب فلأنه يعرف خطورة خطبة الجمعة، وأن مستمعيها من كل أطياف المجتمع، الجاهل والعالم، والعامي والمتعلم، فضلاً عن أن ثقته بنفسه، وورعه وتقواه، وخوفه من ربه جل وعلا، جعلته لا يحتاج لأن يثبت للناس قيمته ومكانته من خلال (استعراض) عضلات لسانه من على المنابر.
وبعد كل ما تقدم، وكل ما تم تفصيله سابقاً، ألا يحق أن نتساءل: من قدوتنا؟ هل هم فرقة حسن البنا و(الاخوان المسلمين) وفروعهم، والمخدوعون بأساليبهم ومناهجهم من علمائنا، الذين جعلوا المسجد محل مزايدات سياسية، أم هم أولئك الذين (نأوا) بخطب الجمع عما يطلبه المسيسون والمتحزبون؟).
فأقول باختصار: ليتك عملت بمضمون بيتي الشافعي - رحمه الله -، وليتك اقتديت بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - في توقير أهل العلم وطلابه، واحترام أهل الفضل ومعلمي الناس الخير، وليتك وعيت النصيحة كما وعاها، وعرفت خطورة الكتابة في الصحافة وأن قارئيها من كل أطياف المجتمع العالم والجاهل، ولم تستعرض عضلاتك في صحيفة سيارة يقرؤها الملايين.
ثم تتساءل في سؤال لا يحتاج إلى سؤال أو تساؤل بغض النظر هل هو سؤال استفهام؟ أو تقرير؟ أو تقريع وتوبيخ؟ فتقول: (من قدوتنا)؟ فأقول لك ولغيرك:
قدوتنا في جميع الأحوال والشؤون هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحق جل وعلا يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}.
وأخيراً تذكر أنك من أسرة مباركة، ومن بيت علم، فاللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
د. حمزة بن سليمان الطيار وكيل كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام للدورات والتطوير |