لم يكن الحراك الاجتماعي بمدينة بريدة منذ مئات السنين هامشياً أو سطحياً فاقداً للهوية، فقد ظل جوهرياً مستلهماً مدلولات القيم الإنسانية النبيلة في إطار معطيات الحياة ومتطلباتها متجاوزاً عصره مجسداً شخصية أبناء بريدة في حقبة زمنية فارطة وقدرتهم على استيعاب الدور في ظل تنام فكري كانت ثقافة العمل جزءاً من مكوناته.
وعندما نتحدث عن هذا الجانب فإننا الآن أمام جملة من الشواهد الحية التي تشكلت على ذات النسق ولربما كانت فصلاً من فصول سابقة حتماً ستتبعها أخرى وهي تجسد الخصوصية والتفرد.
من هنا فإن التجارة في مدينة بريدة والذهنية الاقتصادية برزت لدى أبنائها بشكل لافت منذ عقود زمنية طويلة وصَّفها التاريخ وحكتها السِّير وتحدث بها المستشرقون ولأننا نعيش هذه الأيام موسم التمور في عاصمته الرئيسة بريدة، ولأن سوقها يعد الأشهر والأكبر على مستوى العالم فإننا لا نستكثر على مدينة الأسواق هذا التألق والتفوق والحضور في جانب من جوانب النشاط فيها، بل إن سوق التمور ببريدة يعد حلقة ضمن سلسلة طويلة من الأسواق المماثلة في مجالات أخرى متنوعة.
هذا النشاط التجاري والحركة الاقتصادية التي لا تهدأ هي نتاج فعلي لثقافة مجتمع بريدة وقدرته الفائقة على تعاطي التجارة والتفاعل معها بصورة لافتة.
هذه الثقافة المتراكمة ليست وليدة اليوم أو حتى الأمس القريب ولكنها اتجاه فريد وخط مختلف رسمه أبناء بريدة لأنفسهم منذ القدم جسده قبل مائتين وثلاثين عاماً أمير بريدة آنذاك حجيلان بن حمد عندما تقلد منصب الإمارة فيها عام 1195هـ وكان بريدة في ذلك الوقت مقصداً للناس من كل مكان بسبب الفاقة والحاجة والجوع لأن هذه المدينة تشهد نوعاً من الرخاء جراء انتشار الزراعة والتجارة فيها بشكل بوأها مواقع الريادة في نجد، وفي ظل التهافت وكثرة الوافدين لاحظ الأمير حجيلان ذلك فوجه أمراً بعدم بقاء الضيف لدى مضيفه أكثر من ثلاثة أيام فقط كمدة للضيافة بعدها على الوافد أو الضيف الخروج من مدينة بريدة والعودة إلى دياره أو البقاء شريطة الانخراط في منظومة العمل ببريدة في أي المهن التي يجيدها ويتقنها على أن يتكفل الأمير حجيلان بتمويله وتجهيزه بما يحتاج إن رغب البقاء ليمارس مهنته المحببة إليه .. وكان حجيلان بن حمد يهدف إلى تنشيط التجارة من جهة والقضاء على البطالة من جهة أخرى وانعاش اقتصاد مدينته بصورة أكبر فقدم الأمير كما يتحدث الرواة المال ومنح الأرض والدكاكين وأعطى الراحلة وأدوات الصناعة والتجارة وغيرها من متطلبات المهن وتبعاً لهذا الإجراء شهد اقتصاد بريدة وتجارتها حركة غير عادية في ذلك الوقت وانصرف الكثيرون إلى عمليات الاتجار والزراعة وتنامت المهن والحرف اليدوية فيها وأصبحت بريدة مقصداً وميداناً حراً للتجارة والزراعة والصناعة بأنواعها وأنماطها المختلفة وسجلت الأسواق فيها حضوراً لافتاً تحدث عنه المهتمون كثيراً إلى درجة أن الرواة يذكرون أنه في عهد إمارة حجيلان بن حمد التي استمرت قرابة الأربعين عاماً تم توسيع سور بريدة (العقدة) أو الحامية ثلاث مرات نظراً لتوسع حجم المدينة وزيادة عدد السكان فيها وازدهار الحياة بأوجهها المختلفة هذه السياسة المنبثقة من عقلية ورؤية فذة قبل ما يقارب العقدين ونصف من الزمن تحكي فعلاً جدارة أبناء بريدة في رسم صورة المستقبل وقدرتهم على الاضطلاع بمسؤولياتهم واستشعار دورهم فنظرية حجيلان بن حميد الاقتصادية تستحق التدريس في زمننا هذا وهي جديرة بالاهتمام والتقدير.
وإذا كان التاريخ قد حفظ لنا المنهجية الاقتصادية لدى حجيلان بن حمد فإن هناك وبطبيعة الحال نظريات وتجارب ورؤى أخرى تدل على المستوى الكبير في التفكير وعمق النظر لأبناء بريدة يؤكدها عقيلات بريدة والجردة وسوق الإبل والماشية والأسواق الموسمية وغيرها.
(*)نائب المدير الإقليمي لجريدة الجزيرة بالقصيم. |